الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } * { وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } * { وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } * { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } * { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } * { وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } * { إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ }

يقول الحق جلّ جلاله: { فما أُوتيتم من شيءٍ } مما ترجون وتتنافسون فيه { فمتاعُ الحياةِ الدنيا } أي: فهو متاعها، تتمتعون به مدة حياتكم، ثم يفنى، { وما عند الله } من ثواب الآخرة { خيرٌ } ذاتاً لخلوص نفعه، { وأبقى } زماناً لدوام بقائه. { للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } ، و " ما " الأولى ضُمّنت معنى الشرط، فدخلت في جوابها الفاء، بخلاف الثانية. وعن عليّ رضي الله عنه: أن أبا بكر رضي الله عنه تصدَّق بماله كله، فلامه الناس، فنزلت الآية. ثم قال تعالى: { والذين يجتنبون كبائر الإثم } أي: الكبائر من هذا الجنس. وقرأ الأخوان: " كبير الإثم ". قال ابن عباس: هو الشرك، { و } يجتنبون { الفواحِشَ } وهي ما عظم قُبحها، كالزنى ونحوه، { وإِذا ما غَضِبوا } من أمر دنياهم { هم يغفرون } أي: هم الإخِصَّاء بالغفران في حال الغضب، فيحملون، ويتجاوزون. وفي الحديث: " مَن كظم غيظه في الدنيا ردّ اللهُ عنه غضبَه يوم القيامة ". { والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة } أتقنوا الصلوات الخمس، { وأمرُهُم شُورى بينهم } أي: ذو شورى، يعني: لا ينفردون برأيهم حتى يجتمعون عليه. وعن الحسن: ما تشاور قوم إلا هُدوا لأرشد أمورهم. والشورى: مصدر، كالفتيا، بمعنى التشاور. { ومما رزقناهم يُنفقون } يتصدقون. { والذين إذا أصابهم البغيُ } الظلم { هم ينتصرون } ينتقمون ممن ظلمهم، أي: يقتصرون في الانتصار على ما حُدّ لهم، ولا يعتدون، وكانوا يكرهو أن يذلُّوا أنفسَهم فيجترىء عليهم الفسّاق، فإذا قدروا عفوا، وإنما حُمدوا على الانتصار لأن من انتصر، وأخذ حقه، ولم يجاوز في ذلك حدّ الله، فلم يسرف في القتل، إن كان وليّ دم، فهو مطيع لله. وقال ابن العربي: قوله: { والذين إذا أصابهم البغي... } الآية ذكر الانتصار في معرض المدح، ثم ذكر العفو في معرض المدح، فاحتمل أن يكونَ أحدهُما رافعاً للآخر، واحتمل أن يكون ذلك راجعاً إلى حالين، أحَدُهُما: أن يكون الباغي مُعلناً بالفجور وقحاً في الجمهور، ومؤذياً للصغير والكبير، فيكون الانتقامُ منه أفضل، وفي مثله قال إبراهيم النخعي: يُكره للمؤمنين أن يُذِلُّوا أنفسهم، فيجترىء عليهم الفُسّاق. وإما أن تكون الفَلتة، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة، ويسأل المغفرة، فالعفو ها هنا أفضل، وفي مثله نزل:وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [البقرة: 277]،وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ } [النور: 22] الآية. هـ. ثم بيّن حدّ الانتصار، فقال: { وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مثلها } فالأولى سيئة حقيقة، والثانية مجازاً للمشاكلة، وفي تسميتها سيئة نكتة، وهي الإشارة إلى أن العفو أولى، والأخذ بالقصاص سيئة بالنسبة إلى العفو، ولذلك عقبه بقوله: { فمَن عَفَا وأصلحَ } بينه وبين خصمه بالتجاوز والإغضاء { فأجره على الله } ، وهي عِدَةٌ مبهمة لا يقادر قدرها، { إِنه لا يحب الظالمين } الذين يبدؤون بالظلم، أو: يتجاوزون حدّ الانتصار.

السابقالتالي
2 3 4