الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَـارَ مُبْصِـراً إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } * { ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ خَـٰلِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } * { كَذَلِكَ يُؤْفَكُ ٱلَّذِينَ كَانُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } * { ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَـلَ لَكُـمُ ٱلأَرْضَ قَـرَاراً وَٱلسَّمَآءَ بِنَـآءً وَصَوَّرَكُـمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُـمْ وَرَزَقَكُـمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُـمْ فَتَـبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } * { هُوَ ٱلْحَيُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَـٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }

يقول الحق جلّ جلاله: { الله الذي جعلَ لكم الليلَ لتسكنوا فيه } بأن خلقه مظلماً بارداً، تقلّ فيه الحركات فتستريح فيه الجوارح، { و } جعل { النهارَ مبصراً } أي: مبصَراً فيه. فأسند الإبصار إلى النهار، مجازاً، والأصل في الحقيقة لأهل النهار. وقرن الليل بالمفعول له، والنهار بالحال، ولم يكونا حالين أو مفعولاً لهما رعايةً لحق المقابلة، لأنهما متقابلان معنىً لأن الليل مقابل النهار، فلما تقابلا معنىً تقابلا لفظاً، مع أن كل واحد منهما يؤدي مؤدى الآخر، ولأنه لو قيل: لتُبصروا فيه فاتت الفصاحة التي في الإسناد مجازي، ولو قيل: " ساكناً " لم تتميز الحقيقة من المجاز، إذ الليل يوصف بالسكون على الحقيقة، ألا ترى إلى قولهم: ليل ساج، أي: ساكن لا ريحَ فيه. { إِنَّ الله لذو فضلٍ } عظيم { على الناس } ، حيث تفضَّل عليهم بهذه النعم الجسيمة، وإنما لم يقل: المتفضل لأن المراد تكثير الفضل، وأنه فضله لا يوازيه فضل، فالتنكير للتعظيم. { ولكنَّ أكثرَ الناس لا يشكرون } لجهلهم بالمنعم، وإغفالهم مواضع النعم. وتكرير الناس، ولم يقل: أكثرهم لتخصيص الكفران بهم، وأنهم هم الذين من شأنهم الكفران، كقوله:إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ } [الحج: 66]. { ذلكمُ الله } أي: ذلكم المنفرد بالأفعال المقتضية للألوهية، من خلق الليل والنهار هو الله { ربكُم } لا ربّاً غيره، { خالقُ كل شيء لا إِله إِلا هو } أخبار مترادفة، أي: الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية، وإيجاد الأشياء، والوحدانية، { فأنَّى تُؤفكون } أي: فكيف، ومِن أيّ وجه تُصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان؟! { كذلك يُؤفك الذين كانوا بآياتِ الله يجحدون } أي: مثل ذلك الإفك العجيب، الذي لا وجه له، ولا مصحح له أصلاً، يُؤفك كلُّ مَن جحد بآياته تعالى من غير تروٍّ ولا تأمُّل. ثم ذكر فضله المتعلق بالمكان، بعد بيان فضله المتعلق بالزمان، فقال: { الله الذي جعل لكم الأرضَ قراراً } مستقراً تستقرون عليها بأقدامكم ومساكنكم، { والسماء بناءً } سقفاً فوقكم، كالدنيا بيت سقفه السماء، مزيّناً بالمصابيح، وبساطه الأرض، مشتملة على ما يحتاج إليه أهل البيت. { وصوَّركم فأحسنَ صُورَكم } ، هذا بيان لفضله المتعلق بالأجسام، أي: صوّركم أحسن تصوير، حيث جعلكم مُنتصِبَ القامة، باديَ البشرة، متناسب الأعضاء والتخطيطات، متهيئاً لمناولة الصنائع واكتساب الكمالات. قيل: لمْ يخلق الله حيواناً أحسن صورة من الإنسان. { ورزقكم من الطيبات } أي: اللذائذ، { ذلكم الله ربكم } أي: ذلكم المنعوت بتلك النعوت الجليلة، هو المستحق للربوبية، { فتبارك الله } أي: تعالى بذاته وصفاته { ربُّ العالمين } أي: مالكهم ومربيهم، والكل تحت قدرته مفتقر إليه في إيجاده وإمداده إذ لو انقطع إمداده لانْهَدَ الوجود. { هو الحيُّ } المنفرد بالحياة الذاتية الحقيقية، { لا إِله إِلا هو } إذْ لا موجود يدانيه في ذاته وصفاته وأفعاله، { فادعوه } فاعبدوه { مخلِصين له الدينَ } أي: الطاعة من الشرك والرياء، وقولوا: { الحمد لله ربِّ العالمين }.

السابقالتالي
2