الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَٱعْتَصَمُواْ بِٱللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً } * { مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً }

قلت: الدَّرَك والدَّرْك لغتان، كالظَّعَن والظَّعْن، والنَّهَر والنَّهْر، والنَّشَر والنَّشْر، وهي الطبقة السفلى، وسميت طبقاتهم دركات لأنها مُتداركة متتابعة، وهي ضد الدرجات، فالدرجات للعلو، والدركات للسفل. يقول الحقّ جلّ جلاله: { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } أي: في الطبقة السفلى في قَعر جهنم لإنهم أخبث الكفرة، حيث ضموا إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وخداع المسلمين. قال ابن مسعود رضي الله عنه: هم في توابيت من النار مقفلة عليهم في النار، مطبقة عليهم. وعن ابن عمر رضي الله عنه: إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة ثلاثة: المنافقون، وممن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون لقوله: { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } وقال في أصحاب المائدة:فَإِنْي أُعَذِبُهُ عَذَابًا لآَّ أُعَذِبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالمِينَ } [المَائدة:115]. وقال:ادْخِلُوَاْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَ الْعَذَابِ } [غافر:46]، { ولن تجد لهم نصيرًا } يمنعهم من ذلك العذاب. { إلا الذين تابوا } عن النفاق { وأصلحوا } ما أفسدوا في سرائرهم وأعمالهم في حال النفاق، { واعتصموا بالله } أي: وثقوا به وتمسكوا به، دون أحد سواه، { وأخلصوا دينهم لله } لا يريدون بطاعته إلا وجه الله، ولا رياءً ولا سمعةً { فأولئك مع المؤمنين } في الدين. قال الفرَّاء: من المؤمنين، وقال العتبي: حاد عن كلامهم غيظًا عليهم، ولم يقل هم المؤمنون. هـ. قلت: إنما قال: { مع المؤمنين } ولم يقل: منهم، لأن التخلص من النفاق صعب، ولا يكون من المؤمنين، حتى يتخلص من جميع شعبه، وهو عزيز، وقد قال عليه الصلاة والسلام: " ثَلاثٌ مَن كُنَّ فيه فهُوَ مُنَافقٌ، وإن صَامَ وصلَّى وزَعم أنه مُسلمٌ، من إذا حدَّثَ كَذَبَ، وإذَا وعَدَ أخلفَ، وإذا ائُتمِنَ خَانَ ". { وسوف يُؤت الله المؤمنين } المخلصين { أجرًا عظيمًا } فيساهُمونَهم فيه إن تابوا وأصلحوا، فإن الله غني عن عذابهم، ولذلك قال: { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم } أي: لا حاجة له في عذابكم، فلا يُشفى به غيظًا ولا يدفع به ضررًا، أو يستجلب به نفعًا لأنه غنيَّ عن المنافع، وإنما يعاقب المصر بكفره، لأن إصراره عليه كسوء المزاج يؤدي إلى مرض فإن زال بالإيمان والشكر، ونقَّى منه قلبه، تخلص من تبعته. وإنما قدم الشكر لإن الناظر يدرك النعم أولاً فيشكر شكرًا مبهمًا، ثم يمعن النظر حتى يعرف المنعم فيؤمن به. قاله البيضاوي. وقال الثعلبي: فيه تقديم تأخير، أي إن آمنتم وشكرتم، لأن الشكر لا ينفع مع عدم الإيمان. { وكان الله شاكرًا } لأعمال عباده، يقبل اليسير ويعطي الكثير، { عليمًا } بحقيقة شكرهم وإيمانهم، ومقدار أعمالهم، فيضاعفها على قدر تخليصها. والله تعالى أعلم. الإشارة: لا شيء أصعب على النفس من الإخلاص كلما اجتهد العبد في قطع الرياء نبت على لون آخر، فلا يتطهر العبد منها إلا بتحقيق الفناء والغيبة عن السوى بالكلية.

السابقالتالي
2