الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوۤاْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } * { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً }

قلت: جملة: { ولا يذكرون الله } حال من واو { يُراءون } ، وكذلك { مذبذبين } أي: يراءون حال كونهم غير ذاكرين مذبذبين، أو منصوب على الذم، والمذبذب المضطرب المتردد. يقول الحقّ جلّ جلاله: { إن المنافقين يُخادعون الله } بإظهار الإيمان وإخفاء الكفر، { وهو خادعهم } ، أي: مجازيهم على خداعهم بأن يظهر لهم يوم القيامة، نورًا يمشون به على الصراط، كما يعطي المؤمنين، فإذا مضوا به طُفِىءَ نورهم وبقي نور المؤمنين، فينادونهم:انظُرُونَا نَقْتَبِس مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُورًا } [الحديد:13]، فيتهافتون في النار، فسمي هذه العقوبة خداعًا تسمية للعقوبة باسم الذنب. وكانوا { إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } أي: متثاقلين، لا يريدون بها وجه الله، فإن رءاهم أحد، صلوا، وإلاَّ انصرفوا، فلم يصلوا، { يُراءون } بأعمالهم { الناس } أي: المؤمنين، { ولا يذكرون الله إلا قليلاً } لأن المرئي لا يذكر إلا بحرة الناس، وهو أقل أحواله، أو لا يذكرونه في صلاتهم إلا قليلاً، لأنهم لا يذكرون إلا التكبير والتسليم، وقال ابن عباس: إنما ذلك لأنهم يفعلونها رياءً وسمعةً، ولو أرادوا بذلك وجه الله تعالى لكان كثيرًا. وقال قتادة: إنما قل ذكرهم، لأنه لم يُقبل، فكل ما رُدَّ من العمل فهو قليل، وكل ما قُّبل فهو كثير. وكانوا أيضًا { مذبذبين } أي: مترددين ومتحيرين بين الكفر والإيمان، { لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } أي: لا صائرين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين. قال قتادة: ماهم بمؤمنين مخلصين، ولا مشركين مُصَرِّحين بالشرك، هكذا سبق في علم الله، { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً } أي: طريقًا إلى الهدى، ومثله قوله تعالى:وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } [النور:40]. الإشارة: كل من أحب أن يَرى الناسُ محاسنَ أعماله وأحواله، ففيه شعبة من النفاق وشعبة من الرياء، وعلامة المرائي: تزيين ظاهرة وتخريب باطنه، يتزين للناس بحسن أعماله وأحواله، يراقب الناس ولا يراقب الله، وكان بعضُ الحكماء يقول: يقول الله ـ تعالى ـ: " يا مُرائي: أمرُ من ترائى بيد من تعصيه " فمثل هذا أعماله كلها قليلة، ولو كثرت في الحس كالجبال الرواسي، وأعمال المخلصين كلها كثيرة ولو قلَّت في الحس، وأعمال المرائين كلها قليلة ولو كثرت في الحس. قال في القوت: وَصَفَ اللهُ تعالى ذكر المنافقين بالقلة، لكونه غير خاص، كما قيل في تفسير قوله تعالى:ذِكْرًا كَثِيرًا } [الأحزَاب:41] أي: خالصًا، فسمي الخالص كثيرًا. هـ. قولى تعالى: { مذبذبين بين ذلك }: هذه صفة أهل الدعوى، المستشرفين على الحقيقة بالعلم، ليسوا من الخصوص ولا من العموم، مترددين بين الفريقين، ومن يضلل الله عن طريق التحقيق، فلن تجد له سبيلاً.