الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } * { وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ }

يقول الحق جلّ جلاله: { قل } يا محمد { يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم } أي: أفرطوا في الجناية عليها، بالإسراف في المعاصي، والغلو فيها، { لا تقنطوا من رحمة الله }: لا تيأسوا من مغفرته أولاً، وتفضُّله بالرحمة ثانياً، { إِن الله يغفرُ الذنوبَ جميعاً } ، بالعفو عنها، إلا الشرك. وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: " يغفر الذنوب جميعاً ولا يُبالي " لكنها لم تتواتر عنه. والمغفرة تصدق بعد التعذيب وقبله، وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر، كيف، وقوله تعالى:إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء: 48] ظاهر في الإطلاق مما عدا الشرك؟ وَلِمَا يدل عليه التعليل بقوله: { إِنه هو الغفور الرحيم } على المبالغة، وإفادة الحصر، والوعد بالرحمة بعد المغفرة. وما في { عبادي } من الدلالة على الذلة والاختصاص، المقتضييْن للترحُّم. { إِنه هو الغفورُ } يستر عظام الذنوب { الرحيمُ } يكشف فظائع الكروب. والآية، وإن نزلت في " وحشي " ، قاتل " حمزة " ، أو في غيره، لا تقتضي التخصيص بهم، فإن أسباب النزول لا تخصص. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية ". ولما نزلت في شأن وحشي، وأسلم، قال المسلمون: هذه له خاصة، أو للمسلمين عامة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بل هي للمسلمين عامة " وقال قتادة إن ناساً أصابوا ذنوباً عظاماً، فلما جاء الإسلام أشفقوا ألا يتاب عليهم، فدعاهم الله تعالى بهذه الآية. وقال ابن عمر: نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، ونفر كانوا قد أسلموا ثم فُتنوا، فكنا نقول: لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً، فنزلت الآية، وكان عمر بن الخطاب كاتباً، فكتبها بيده، ثم بعث بها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد، وإلى أولئك النفر، فأسلموا، وهاجروا. قال علي رضي الله عنه: " ما في القرآن آية أوسع من هذه الآية ". فما يُقنط الناس ويشدد عليهم بعد هذه الآية إلا جهول، أو جامد، قال زيد بن أسلم: إنَّ رجلاً كان في الأمم الماضية مجتهداً في العبادة، فيشدد على نفسه، ويقنط الناس من رحمة الله، فمات، فقال: أيّ ربّ ما لي عندك؟ فقال: النار. فقال: يا رب أين عبادتي؟ فقال: إنك كنت تُقنط الناس من رحمتي في الدنيا، فاليوم أقنطك من رحمتي. وعن عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ قال: الفقيه كل الفقيه الذي لا يقنط الناس من رحمة الله، ولا يؤمنهم من عذاب الله، ولا يرخص لهم في معاصي الله. هـ. ثم حضَّ على التوبة لتتحقق المغفرة، فقال: { وأَنِيبوا إِلى ربكم } أي: ارجعوا إليه بالتوبة والإخلاص.

السابقالتالي
2 3