الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } * { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ } * { فَقَالَ إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } * { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِٱلسُّوقِ وَٱلأَعْنَاقِ }

يقول الحق جلّ جلاله: { ووهبنا لداودَ سليمانَ نِعْمَ العبدُ } أي: سليمان، فهو المخصوص، { إِنه أوابٌ } أي: رجَّاع إلى الله تعالى في السرّاء والضراء، وفي كل أموره، { إِذ عُرِضَ عليه } أي: واذكر ما صدر عنه حين عُرض عليه { بالعشِيّ } وهو ما بين الظهر إلى آخر النهار، { الصافناتُ الجياد } أي: الخيل الصافنات، وهي التي تقوم على طرف سنبك يدٍ أو رِجل. وهي من الصفات المحمودة، لا تكاد توجد إلا في الخيل العِراب، الخُلَّص. وقيل: هو الذي يجمع يديه ويستبق بهما، والجياد: جمع جواد، أو: جود، وهو الذي يسرع في جريه، أو: الذي يجود عند الركض، وقيل: وصفت بالصفون والجودة لبيان جمعها بين الوصفين المحمودين، واقفة وجارية، أي: إذا وقفت كانت ساكنة، وإذا جرت كانت سِراعاً خفافاً في جريها. رُوي أنه عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين، وأصاب ألف فرس، وقيل: أصابها أبوه من العمالقة، وورثها منه، وفيه نظر فإن الأنبياء لا يورثون، إلا أن يكون تركها حبساً، فورث النظر فيها. ويكون عقرها بنية إبدالها. وقيل: خرجت من البحر لها أجنحة، فقعد يوماً بعدما صلّى الظهر على كرسيه، فاستعرضها، فلم تزل تُعرض عليه حتى غربت الشمس، وغفل عن العصر، أو: عن الوِرد، كان له من الذكْر وقتئذ، وهو أليق بالعصمة، فاغتم لِما فاته، فاستردها، فعقرها، تقرُّباً إلى الله تعالى، وبقي مائة، فما في أيدي الناس اليوم مِن الجياد فمِن نسلها. وقيل: لَمَّا عقرها أبدل الله تعالى له خيراً منها، وهي الريح تجري بأمره، { فقال إِني أحببتُ حُبَّ الخيرِ عن ذكر ربي } ، قاله عليه السلام عند غروب الشمس، اعترافاً بما صدر عنه من الاشتغال بها عن الصلاة أو الذكر، وغايته حينئذ: أن الأَوْلى استغراق الأوقات في ذكر الله من الاشتغال بالدنيا. فترَكَ الأَوْلى، وتحسّر لذلك، وأمر بالقطع. وأما حمله على الصلاة والاشتغال بها حتى يفوت الوقت، فذنب عظيم، تأباه العصمة. قاله شيخ شيوخنا الفاسي. وقد يُجاب بأنَّ تركه كان نسياناُ وذهولاً، لا عمداً، فلا معصية. وعدّى " أحببتُ " بـ " عن " دون " على " لتضمنه معنى النيابة، أي: أَنَبْتُ حبَّ الخير، وهو المال الكثير، والمراد: الخيل التي شغلته عن ذكر ربه، { حتى توارتْ } أي: استترت { بالحجابِ } أي: غربت واحتجبت عن العيون، و " عن ": متعلق بأحببت، باعتبار استمرار المحبة ودوامها. حسب استمرار العَرض، أي: أنبتُ حب الخير عن ذكر ربي، واستمر ذلك حتى غربت الشمس. وإضمارها من غير تقدُّم ذكر لدلالة " العَشي " عليها. { رُدُّوها عليَّ } ، هو من مقالة سليمان، { فطَفِقَ مسْحاً } ، الفاء فصيحة، مفصحة عن جملة حُذفت، لدلالة الكلام عليها، إيذاناً بسرعة الامتثال، أي: فَردُّوها عليه، فأخذ بمسح السيف مسحاً { بالسُّوقِ والأعناقِ } أي: بسوقها وأعناقها يقطعها، من قولهم: مسح عنقه بالسيف، وقيل: جعل يمسح بيده أعناقها وسوقها، حبّاً لها، وإعجاباً بها، وهو يُنافي سياق الكلام.

السابقالتالي
2