الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ } * { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } * { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ }

يقول الحق جلّ جلاله: { ص } أي: أيها الصادق المصدوق. وقال القشيري: معناه: مفتاحُ اسمه الصادق، والصبور، والصمد. أقسم بهذه الأسماء، وبالقرآنِ { ذِي الذكر } أي: ذي الشرف التام، الباقي، المخلَّد لمَن تمسّك به، أو ذي الوعظ البليغ لمَن اتعظ به، أو ذي الذكر للأمم والقصص والغيوب. أو: يراد به الجميع. وجواب القسم: محذوف، أي: إنه لكلام معجز، أو: إنه لَمن عند الله، أو: إن محمداً لصادق، أو: ما الأمر كما يزعمون، أو:إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } [يس: 3] وقيل:إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ } [ص: 14] أو:إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } [ص: 64] وهو بعيد. { بل الذين كفروا } من قريش { في عِزَّةٍ } تكبُّر عن الإذعان لذلك، والاعتراف بالحق، { وَشِقَاقٍ } خلاف لله ولرسوله. والإضراب عن كلام محذوف يدل عليه جواب القسم، أي: إن كفرهم ليس عليه برهان، بل هو بسبب العزة، والعداوة، والشقاق، وقصد المخالفة. والتنكير في " عزة وشقاق " للدلالة على شدتهما وتفاقمهما. وقرىء " في غِرَّةٍ " أي: في غفلة عما يجب عليهم من النظر واتباع الحق. ثم هدّدهم بقوله: { كم أهلكنا من قبلهم } من قبل قومك { من قَرْنٍ } من أُمّة أو جيل، { فَنَادَوا } أي: فدعوا واستغاثوا حين رأوا العذاب: { ولاتَ حين مَنَاصٍ } أي: وليس الوقت وقت خلاص ونجاة وفرار، والمعنى: أنهم استغاثوا حين لم ينفعهم ذلك. { ولات } هي " لا " المشبّهة بـ " ليس " ، زيدت عليها تاء التأنيث، كما زيدت على " ربّ " ، و " ثمّ " للتوكيد، وتغيّر بذلك حكمها، حيث لم تدخل إلا على الأحيان، ولم يبرز إلا أحد معموليها، إما الاسم أو الخبر، وامتنع بروزهما بنفي الأحيان، وهذا مذهبُ الخليل وسيبويه، وعند الأخفش أنها النافية للجنس، زيدت عليها الهاء، وخصّت بنفي الأحيان. وقال أبو محمد مكي: الوقف عليها عند سيبويه، والفراء وأبي إسحاق، وابن كيسان، بالتاء، وعليه جماعة القراء، وبه أتى خط المصحف. وعند المبرد والكسائي بالهاء، بمنزلة " رب ". اهـ. الإشارة: افتتح الحق جلّ جلاله هذه السورة، التي ذكر فيها أكابر أصفيائه، بحرف الصاد، إشارة إلى مادة الصبر، والصدق، والصمدانية، والصفاء إذ بهذه المقامات ارتفع مَن ارتفع، وبالإخلال بها سقط مَن سقط. فبالصبر على المجاهدات تتحقق الإمامة والقدوة، وبالصدق في الطلب يقع الظفر بكل مطلب، وبالصمدانية تقع الحرية من رقّ الأشياء، وبالصفاء تحصل المشاهدة والمكالمة، فكأن الحق تعالى أقسم بهذه الأشياء وبكتابه العزيز إن المتكبرين على أهل الخصوصية ما أنكروا إلا جُحوداً وعناداً، وتعزُّزاً واستكباراً، لا لخلل فيهم، ثم أوعدهم بالهلاك، كما أهلك مَن قبلهم، فاستغاثوا حين لم ينفعهم الغياث. ثم ذكر تعجبهم من كون المنذرِ منهم فقال: { وَعَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ }.