الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ } * { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ } * { أَمْ نَجْعَلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَٱلْمُفْسِدِينَ فِي ٱلأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ }

يقول الحق جلّ جلاله: { يا داودُ إِنا جعلناك خليفةً في الأرض } أي: استخلفناك على المُلك فيها، والحُكم فيما بين أهلها، أو: جعلناك عمَّن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق، وفيه دليل على أن حاله عليه السلام بعد التوبة، كما كان قبلها، لم يتغير قط، خلاف ما نقله الثعلبي من تغيُّر حاله وصوته، ومنع الطيور من إجابته، فانظره. { فاحكمْ بين الناس بالحق } بحكم الله تعالى، إذ كنت خليفته، أو: بالعدل، { ولا تتبع الهوى } أي: هوى النفس في الحكومات، وغيرها من أمور الدين والدنيا، بل قِفْ عند ما حدّ لك. وفيه تنبيه على أن أقبح جنايات العبد متابعةُ هواه، { فيُضلك عن سبيل الله } أي: فيكون الهوى، أو اتباعه، سبباً لضلالك عن دلائله اللاتي نصبها على الحق، تكويناً وتشريعاً. و " يُضلك ": منصوب في جواب النهي، أو: مجزوم، فُتح لالتقاء الساكنين. { إِن الذين يَضِلُّون عن سبيل الله } عن طريقه الموصلة إليه. وأظهر " سبيلَ الله " في موضع الإضمار للإيذان بكمال شناعة الضلال عنه، { لهم عذاب شديد بما نَسُوا } بسبب نسيانهم { يوم الحساب } فإنَّ تذكره وترداده على القلب يقتضي ملازمة الحق ومباعدة الهوى. { وما خلقنا السماء والأرضَ وما بينهما } من المخلوقات على هذا النظام البديع { باطلاً } أي: خلقاً باطلاً، عارياً عن الحكمة، أو: مبطلين عابثين، بل لحِكَم بالغة، وأسرارٍ باهرة، حيث خلقنا من بيْنها نفوساً، أودعناها العقل لتميز بين الحق والباطل، والنافع والضار، ومكنَّاها من التصرفات العلمية والعملية، في استجلاب منافعها، واستدفاع مضارها، ونصبنا لها للحق دلائل آفاقية، ونفسية، ومنحناها القدرة على الاستشهاد بها، ثم لم نقتصر على ذلك المقدار من الألطاف، بل أرسلنا إليها رسلاً، وأنزلنا عليها كتباً، بيَّنَّا فيها كيفية الأدب معنا، وهيئة السير إلى حضرة قدسنا، وقيَّضنا لها جهابذة، غاصوا على جواهر معانيها، فاستخرجوا منها كيفية المعاملة معنا، ظاهراً وباطناً، وأوعدنا فيها بالعِقَاب لمَن أعرض عنها، ووعدنا بالثواب الجزيل لمَن تمسّك بها، ولم نخلق شيئاً باطلاً. { ذلك ظنُّ الذين كفروا } ، الإشارة إلى خلق العبث، والظن بمعنى المظنون، أي: خَلْقُها عبثاً هو مظنون الذين كفروا، وإنما جُعلوا ظانين أنه خلقها للعبث، وإن لم يصرحوا بذلك لأنه لمّا كان إنكارهم للبعث، والثواب، والحساب، والعقاب، التي عليها يدور فلك تكوين العالم، مؤدياً إلى خلقها عبثاً، جُعِلوا كأنهم يظنون ذلك ويقولونه لأن الجزاء هو الذي سيقت إليه الحكمة في خلق العالم، فمَن جحده فقد جحد الحكمة في خَلْق العالم. { فويل للذين كفروا من النار }. الفاء سببية لإفادة ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل، وأظهر في موضع الإضمار للإشعار بأن الكفر علة ثبوت الويل لهم، و " من النار ": تعليلية، كما في قوله:

السابقالتالي
2