الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو ٱلأَوْتَادِ } * { وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لْئَيْكَةِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلأَحْزَابُ } * { إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } * { وَمَا يَنظُرُ هَـٰؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ }

يقول الحق جلّ جلاله: { كذَّبت قبلهم } أي: قبل أهل مكة { قومُ نوح } نوحاً، { وعادٌ } هوداً { وفرعونُ } موسى، { ذو الأوتاد } ، قيل: كانت له أربعة أوتاد وحبال يلعب بها أو عليها بين يديه، وقيل: كان يوتّد مَن يعذب بأربعة أوتاد في يديه ورجليه، ويتركه حتى يموت. وقيل: كان يرسل عليه عقارب وحيّات. وقيل: معناه: ذو المُلك الثابت، من: ثبات البيت المُطَنَّب بأوتاده، فاستعير لرسوخ السلطنة، واستقامة الأمر، كقول الشاعر:
ولقد غَنَوا فيها بأَنْعَمِ عيشةٍ في ظلِّ مُلْكٍ ثَابِتِ الأَوْتَادِ   
{ وثمودُ } وهم قوم صالح، { وقومُ لوط } كذَّبوا لوطاً، { وأصحابُ الأيكةِ } أصحاب الغيضة كذَّبوا شُعيباً عليه السلام، { أولئك الأحزابُ }: بدلٌ من الطوائف المذكورة. وفيه فضل تأكيد وتمهيد لما يعقبه، وأراد بهذه الإشارة الإعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هؤلاء الطوائف، وأنهم الذين وجد منهم التكذيب، ولذلك قال: { إِن كلٌّ إِلا كذَّب الرسلَ } أي: ما كل أحد من آحاد أولئك الأحزاب، أو: ما كل حزب منهم إلا كذّب الرسل لأن تكذيب واحد منهم تكذيب لجميعهم لاتفاق الكل على الحق، أو: ما كل حزب إلا كذَّب رسوله، على نهج مقابل الجمع بالجمع. وأيًّا ما كان فالاستثناء مفرغ من أعم [العلل] في خبر المبتدأ، أي: ما كل أحد منهم محكوم عليه بحكم إلا أنه كذب الرسل، { فحقَّ عقاب } أي: فوجب لذلك أن أُعاقبهم حق العقاب، التي كانت توجبه جناياتهم من أصناف العقوبات. { وما ينظر هؤلاء } أي: وما ينتظر أهل مكة. وفي الإشارة إليهم بهؤلاء تحقير لشأنهم، وتهوين لأمرهم، أي: وما ينتظر هؤلاء الكفرة الذين هم أمثال أولئك الطوائف المهلكة في الكفر والتكذيب، { إِلا صيحةً واحدة } وهي النفخة الثانية لما فيها من الشدة والهول، فإنها داهية، يعم هولها جميع الأمم، برَّها وفاجرها. والمعنى: أنه ليس بينهم وبين حلول ما أعدّ الله لهم من العقاب إلا نفخة البعث، أُخرت عقوبتهم إلى الآخرة لأن حلولها بهم في الدنيا يوجب الاستئصال، وقد قال تعالى:وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [الأنفال: 33] فأخرت ليوم القيامة. وأما ما قيل من أنها النفخة الأولى فمما لا وجه له لأنه لا يشاهد هولَها، ولا يصعَق بها إلا مَن كان حيًّا عند وقوعها. قاله أبو السعود. { ما لها من فَوَاقٍ } أي: مِن توقُّف مقدار فواق، هو ما بين حلبتي الحالب، أي: إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان. وعن ابن عباس: ما لها من رجوع وترداد، من أفاق المريض إذا رجع إلى الصحّة، وفواق الناقة: ساعة يرجع الدرّ إلى ضرعها. يريد: أنها نفخة واحدة، لا تثنى، ولا تردد. والفواق بمعنى التأخر، فيه لغتان: الفتح والضم، وأما ما بين حلبتي الناقة، فبالضم فقط. الإشارة: ما جرى على مكذبي الرسل يجري في مكذِّبي الأولياء، إلاَّ أن عذابهم البُعد والطرد، وحرمان معرفة العيان. وبالله التوفيق. ثم ذكر استعجالهم العذاب، فقال: { وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا }.