يقول الحق جلّ جلاله: { فَنَظَر } إبراهيم { نظرةً في النجوم } وذلك أن قومه كانوا يتعاطون علم النجوم، فعاملهم بما يعلمون لئلا ينكروا عليه تخلُّفه. وكانوا يقولون: إذا طلع سهيل مقابل الزهرة سَقِمَ مَن نظر إليه، فاعتلّ عليهم لأنه نظر إليه ليتركوه. وذلك أنه كان لهم من الغد عيد ومجمع، وكانوا يدخلون على أصنامهم، فيقربون إليها القرابين، ويضعون بين أيديها الطعام، قبل خروجهم إلى عيدهم، لتبارك عليه، فإذا قَدِمُوا أكلوه. فلما نظر إلى النجوم، قال: { إِني سقيمٌ } إني مشارف للسقم ـ وهو الطاعون، وكان أغلب الأسقام عليهم، وكانوا يخافون العدوى ـ ليتفرقوا عنه، فهربوا منه إلى عيدهم، وتركوه في بيت الأصنام، ليس معه أحد، ففعل بالأصنام ما فعل. قيل: إن علم النجوم كان حقًّا ثم نُسخ الاشتغال به. والكذب حرام إلا إذا عرّض. والذي قاله إبراهيم عليه السلام مِعْراض من الكلام، أي: سأسقم، أو: مَنْ في عنقه الموت سقيم، أو: سقيم مما أرى من مخالفتكم وعبادتكم الأصنام. وعلى كل حال لم يلم إبراهيمُ بشيء من الكذب، وإنما عرّض. وأيضاً: إنما كان لمصلحة، وقد أُبيح لها، كالجهاد ونحوه. وفي الحديث: " ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، ما منها واحدة إلا وهو يناضل عن دينه قوله: { إِني سقيم } ، وقوله: { فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } [الأنبياء: 63]، وقوله لسارة: هي أختي ". قال السدي: خرج معهم إلى بعض الطريق، فوقع في نفسه كيده آلهتهم، فقال: إني سقيم أشتكي رجلي. { فتولوا عنه مدبرين } أعرضوا عنه مولين الأدبار، { فراغَ إِلى آلهتهم } فمال إليها سرًّا، وكانت اثنين وسبعين صنماً من خشب، وحديد، ورصاص، ونحاس، وفضة، وذهب، وكان كبيرهم من ذهب، في عنقه ياقوتتان، { فقال } لها، استهزاء: { ألا تأكلون } من الطعام الذي وُضع عندكم، { ما لكم لا تنطقون }؟ والجمع بالواو والنون لأنه خاطبها خطاب مَن يعقل. { فَرَاغَ عليهم } فمال إليهم سرًّا، فضربهم { ضرباً باليمين } أي: ضرباً شديداً بالقوة لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدّهما، أو: بالقوة والمتانة، أو: بسبب الحلف الذي سبق منه بقوله:{ وَتَاللهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم } [الأنبياء: 57]. { فأقبلوا إِليه } إلى إبراهيم { يَزِفُّونَ }: يسرعون، من: الزفيف، وهو الإسراع. وكان قد رآه بعضهم يكسرها. فأخبرهم، فلما جاء مَن لم يره قال لمَن رآه:{ مَن فَعَلَ هَذَا بِئَالِهَتِنَآ } [الأنبياء: 59] فأجابوه على سبيل التعريض:{ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } [الأنبياء: 60]، ثم قالوا بأجمعهم: نحن نعبدها وأنت تكسرها؟ فأجابهم بقوله: { قال أتعبدون ما تنحتون }: ما تنجزونه بأيديكم من الأصنام؟ { واللهُ خلقكم وما تعملون } أي: وخلق ما تعملونه من الأصنام: أو: " ما " مصدرية، أي: وخلق أعمالكم. وهو دليلنا في خلق الأفعال لله تعالى، أي: الله خالقكم وخالق أعمالكم، فلِمَ تعبدون غيره؟!.