الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } * { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } * { قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } * { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ } * { أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ } * { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } * { فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

يقول الحق جلّ جلاله: { أَوَلَمْ يَرَ الإِنسانُ أَنَّا خَلقناه من نُطفةٍ } مَذِرة، خارجة من الإحليل، الذي هو قناة النجاسة، { فإِذا هو خَصِيم مبين } بيّن الخصومة، أي: فهو على مهانة أصله، ودناءة أوله، يتصدّى لمخاصمة ربه، ويُنكر قدرته على إحياء الميت بعدما رمّت عظامه. وهي تسلية ثانية له صلى الله عليه وسلم، وتهوين ما يقولونه في جانب الحشر، وهو توبيخ بليغ حيث عجّب منه، وجعله إفراطاً في الخصومة بيّناً فيها. رُوي أن أَبيّ بن خلف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم بالٍ، ففتَّه بيده، وقال: يا محمد أتُرى الله يحيي هذا بعدما رمّ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " نعم ويبعثك ويدخلك جهنم " فنزلت الآية. { وضَرَبَ لنا مثلاً } أمراً عجيباً، بأن جَعَلنا مثل الخلق العاجزين، فنعجز عما عجزوا عنه من إحياء الموتى، { ونَسِيَ خَلْقَه } من المنيّ المهين، فهو أغرب من إحياء العظم الرميم. و " خلقه ": مصدر مضاف للمفعول، أي: خلقنا إياه، { قال مَن يحيي العظامَ وهي رميمٌ } بالٍ مفتت، وهو اسم لما بَلِيَ من العظام، لا صفة، ولذلك لم يؤنّث. وقد وقع خبراً لمؤنث، وقيل: صفة بمعنى مفعول، من: رممته، فيكون كقتيل وجريح. وفيه دليل على أن العظم تحله الحياة، فإذا مات صار نجساً، وهو مذهب مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا تحلّه الحياة، فهو طاهر كالشعر والعصب. { قُل يُحْييها الذي أنشأها } خلقها { أولَ مرة } أي: ابتداء، { وهو بكل خَلْقٍ } مخلوق { عليمٌ } لا يخفى عليه أجزاؤه، وإن تفرقت في البر أو البحر، فيجمعه، ويُعيده كما كان. ثم ذكر برهان إحيائه الموتى بقوله: { الذي جعل لكم من الشَّجَرِ الأخضر } كالمَرْخ والعَفَار، { ناراً فإِذا أنتم منه تُوقِدُون } تقدحون، ولا تشكون أنها نار خرجت منه، فمَن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر، مع ما فيه من المائية، المضادة للنار، كان أقدر على إيجاد الحياة والغضاضة فيما غضا ويبس، وهي الزناد عند العرب، وأكثرها من المَرْخ والعَفار، وفي أمثالهم: " في كلّ شجر نار، واستمجد المرخُ والعفار " أي: استكثر في هذين الصنفين. وكان الرجل يقطع منهما غصنين مثل السوَاكين، وهما خضراوان، يقطر منهما الماء، فيسحق المرخ ـ وهو ذكر ـ على العفار ـ وهي أنثى ـ فينقدح النار بإذن الله تعالى. وعن ابن عباس رضي الله عنه: ليس من الشجر شجرة إلا وفيها نار، إلا العناب لمصلحة الدقّ للثياب. والمرخُ ـ ككتف: شجر سريع الورى. قاله في الصحاح. وهو المسمى عندنا بالكُلخ. وفي القاموس: عَفار كسحاب: شجر يتخذ منه الزناد. قال ابن عطية: النار موجودة في كل عود، غير أنها في المتحلحَل، المفتوح المسام، أوجد، وكذلك هو المَرْخ والعَفار.

السابقالتالي
2 3