الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ تَنزِيلَ ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ } * { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } * { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } * { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ } * { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } * { وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } * { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ }

قلت: " تنزيل ": خبر، أي: هو تنزيل. ومَن نصبه فمصدر، أي: نُزل تنزيل، أو: اقرأ تنزيل، وقرىء بالجر، بدل من القرآن. و " ما أُنذر ": نعت لقوم. و " ما ": نفي، عند الجمهور، أو: موصولة مفعولاً ثانياً لتُنذر، أي: العذاب الذي أُنْذرَه آباؤهم، أو: مصدرية، أي: لتنذر قوماً إنذاراً مثل إنذار آبائهم. يقول الحق جلّ جلاله: هذا أو هو { تنزيل العزيز } أي: الغالب القاهر بفصاحة نظم كتابه أوهامَ ذوي العناد، { الرحيم } الجاذب بلطافة معنى خطابه أفهامَ ذوي الرشاد. أنزلناه { لتُنذر } به { قوماً } أو: أرسلناك لتنذر قوماً غافلين، { وما أُنذر آباؤهم } أي: غير منذر آباؤهم، كقوله:لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } [السجدة: 3] وقوله:ومَآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ } [سبأ: 44] أو: لتُخوف قوماً العذاب الذي أُنذر به آباؤهم، لقوله:إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً } [النبأ: 40]. أو: لتنذر قوماً إنذار آبائهم، وهو ضعيف إذ لم يتقدم لهم إنذار. { فهم غافلون } إن جعلت " ما " نافية فهو متعلق بالنفي، أي: لم ينذروا فهم غافلون، وإلا فهو متعلق بقوله: { إنك لمن المرسلين } لتنذر قوماً، كقولك: أرسلته إلى فلان لينذره فهو غافل. { لقد حقَّ القولُ على أكثرهم فهم لا يؤمنون } يعني قوله:لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةٍ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [السجدة: 13] أي: تعلق بهم هذا القول، وثبت عليهم ووجب لأنه عَلِمَ أنهم يموتون على الكفر. قال ابن عرفة: إنذارهم مع إخباره بأنهم لا يُؤمنون ليس من تكليف ما لا يطاق عقلاً وعادة، وما لا يطاق من جهة السمع يصح التكليف به، اعتباراً بظاهر الأمر، وإلا لزم أن تكون التكاليف كلها لا تطاق، ولا فائدة فيها لأنَّ المكلفين قسمان: فمَن عَلِمَ تعالى أنه لا يؤمن فلا فائدة في أمره بالإيمان إذ لا يطيق عدمه. هـ. قلت: الحكمة تقتضي تكليفهم لتقوم الحجة عليهم أو لهم، والقدرة تقتضي عذرهم. والنظر في هذه الدار ـ التي هي دار التكليف ـ للحكمة لا للقدرة. ثم مثّل تصميمهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى ارْعوائهم، بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، وكالحاصلين بين سدّين، لا ينظرون ما قدّامهم ولا ما خلفهم، بقوله: { إِنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقانِ } معناه: فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها، { فهم مُقمَحُون } مرفوعة رؤوسهم إلى فوق، يقال: قمح البعيرَ فهو قامح إذا روي فرفع رأسه، وهذا لأنّ طوق الغلّ الذي في عُنُق المغلول، يكون في ملتقى طرفيه، تحت الذقن، حلقة، فلا تخليه يطأطىء رأسه، فلا يزال مقمحاً. والغل: ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف والتعذيب.

السابقالتالي
2