الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ } * { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُـمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } * { وَمَا ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ }

يقول الحق جلّ جلاله: { يا أيها الناس أنتم الفقراءُ إِلى الله } في دقائق الأمور وجليلها، في كل لحظة لا يستغني أحد عنه طرفة عين، ولا أقل من ذلك إذ لا قيام للعبد إلا به، فهو مفتقر إلى الله، إيجاداً وإمداداً. قال البيضاوي: وتعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم، كأنهم لشدة افتقارهم، وكثرة احتياجهم، هم الفقراء دون غيرهم، وأن افتقار سائر الخلق بالإضافة إلى فقرهم غير مُعتد به، ولذلك قال:وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً } [النساء:28] قلت: ويمكن أن يكون الحصر باعتبار الحق تعالى، أي: أنتم فقراء دون خالقكم، بدليل وصله بقوله: { والله هو الغنيُّ الحميدُ }. وقال ذو النون رضي الله عنه: الخلقُ محتاجون إليه في كل نَفَسٍ، وطرفة، ولحظة، وكيف لا ووجودهم به، وبقاؤهم به؟ { والله هو الغنيُّ } عن الأشياء كلها، { الحميدُ } أي: المحمود بكل لسان. ولم يَسمِّهم بالفقر للتحقير، بل للتعظيم لأن العبد إذا أظهر فقره لسيده الغني أغناه عن أشكاله وأمثاله. وذكر " الحميد " ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خَلْقه، والجواد المنعم عليهم إذ ليس كلّ غنيّ نافعاً بغناه، إلا إذا كان الغنيُّ جواداً منعماً، وإذا جاد وأنعم، حمده المُنعَم عليهم. ولَمَّا ذكر افتقارم إلى نعمة الإيجاد، ذكر افتقارهم إلى نعمة الإمداد، بقوله: { إِن يشأ يُذهبكم } أي: إن يشأ يُفنيكم كلكم، ويردكم إلى العدم فإنَّ غناه بذاته، لا بكم، { ويأتِ بخلقٍ جديدٍ } يكون أطوع منكم، أو بعالَم آخر غير ما تعرفون. { وما ذلك } أي: الإفناء والإنشاء { على الله بعزيز } بممتنع. وعن ابن عباس: يخلق بعدكم مَن يعبده، لا يشرك به شيئاً. قال القشيري: فقر الخِلْقَة عام لكلِّ أحدٍ، في أول حال وجوده ليُبديه وينْشيه، وفي ثاني حال بقائه ليُديمَه ويُبقيَه. هـ. قلت: وإليه أشار في الحِكَم بقوله: " نعمتان ما خلا موجود عنهما، ولا بد لكل موجود منهما: نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، أنعم أولاً بالإيجاد، وثانياً بتوالي الإمداد ". الإشارة: الفقر على أربعة أقسام: فقر من الدين، وفقر من اليقين، وفقر من المال، وفقر مما سوى الله. فالأولان مذمومان، وصاحبهما موسوم بالإفلاس والهلع، ومنهما وقع التعوُّذ في الحديث. والثالث: إن صحبه الرضا فممدوح، وفيه وردت الأحاديث النبوية، وإلاَّ فمذموم، ويشمله التعوُّذ في الحديث. الرابع: هو مطلب القاصدين والعارفين، وهو الغيبة عما سوى الله، والغنى بالله، كما قال الشيخ أبو الحسن: " أسألك الفقر عما سواك، والغنى بك، حتى لا نشهد إلا إياك " وهو ينشأ عن التحقُّق بالفقر ظاهراً وباطناً لأن الفقر من وصف العبد، والغنى من وصف الرب، فمَن تحقق بوصفه أمدّه الله بوصفه، " تحقق بوصفك يُمدك بوصفه، تحقق بفقرك يمدك بغناه، تحقق بذلك يمدك بعزه ".

السابقالتالي
2