الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } * { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ }

يقول الحق جلّ جلاله: { يُولج الليلَ في النهار ويُولج النهارَ في الليل } أي: يُدخل من ساعات أحدهما في الآخر، حتى يصير الزائدُ منهما خمس عشرة ساعة، والناقص تسعاً. { وسخَّر الشمسَ والقمرَ } ذللها لِمَا يُراد منهما، { كُلٌّ يجري لأجلٍ مسمى } أي: يوم القيامة، فينقطع جريهما، { ذلكم اللهُ ربكم } الإشارة إلى فاعل هذه الأشياء، وهي: مبتدأ، و " الله " وما بعده: أخبار، { له الملكُ } له التصرف التام. { والذين تَدْعُون من دونه } من الأصنام، أي: تعبدونهم، { ما يملكون من قِطْمِير } وهي القشرة الرقيقة الملتفة على النواة، كما أن النقير: النقطة في ظهره. وهما كنايتان عن حقارة الشيء وتصغيره. { إِن تدْعُوهُم } أي: الأصنام { لا يسمعوا دعاءَكم } لأنهم جماد، { ولو سَمِعُوا } على سبيل الفرض { ما استجابوا لكم } لأنهم لا يدّعون ما تدّعون لهم من الإلهية، بل يتبرؤون منها. { ويومَ القيامة يكفرون بشِرْكِكم } بإشراككم لهم، وعبادتكم إياهم. ويقولون:مَّا كُنتُم إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } [يونس: 28]. { ولا يُنبئك مِثْلُ خبيرٍ } أي: ولا يخبرك بالأمر على حقيقته مخبر مثل خبير به، وهو الله تعالى فإنه خبير به على الحقيقة، دون سائر المخبرين. والمراد: تحقيق ما أخبر به من حال آلهتهم، ونفي ما يدعون لها. أو: ولا يخبرك أيها المفتون بأسباب الغرور، كما ينبئك الله الخبير بخبايا الأمور وتحقيقها، أي: لا يخبرك بالأمور مخبر هو خبير عالم به، يريد أنَّ الخبير بالأمور وحده هو الذي يُخبرك بالحقيقة، دون سائر المخبرين. والمعنى: أنَّ هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق أنه خبيرٌ بما أخبرتُ به. والله تعالى أعلم. الإشارة: قال الشيخ: أبو العباس المرسي رضي الله عنه: يُولج الليل في النهار، ويولج النهارَ في الليل. يُولج المعصية في الطاعة، ويُولج الطاعة في المعصية. يعمل العبد الطاعة فيُعجب بها، ويعتمد عليها، ويستصغر مَن لم يفعلها، ويطلب من الله العوض عليها، فهذه حسنات أحاطت بها سيئات. ويُذنب العبدُ الذنبَ، فيلتجىء إلى الله فيه، ويعتذر منه، ويستصغر نفسه، ويُعظم مَن لم يفعله، فهذه سيئة أحاطت بها حسنات، فأيتهما الطاعة، وأيتهما المعصية؟ هـ. أو: يولج ليلَ القبض في نهار البسط، وبالعكس، أو: يولج ليلَ الحجبة في نهار الكشف، ونهارَ الكشف في ليل القطيعة، يتواردان إلى حال طلوع شمس العرفان، فلا غروب لها، كما قال الشاعر:
طلعت شمسُ من أُحب بليلٍ واستنارت فما تلاها غروب إنَّ شمسَ النهارِ تَغْربُ بالليـ ـل وشمس القلوبِ ليستْ تغيبُ   
قال القشيري: يُولج الليل في النهار، تغلب النَّفسُ مرةً على القلب، وبالعكس، وكذلك القبضُ والبسط، فقد يستويان، وقد يغلب أحدُهما، وكذلك الصحو والسُكْرُ، والفناء والبقاء، وآثار شموس التوحيد، وأقمار المعرفة على ما يريد من إظهارها على القلوب. فهذه كلها يولج أحدها في الآخر. ولا يعرف هذا إلا مَن تحقق بفقره إلى الله تعالى. كما قال: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ... }