الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } * { وَقَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } * { وَقَدْ كَـفَرُواْ بِهِ مِن قَـبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } * { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ }

قلت: " مُرِيب ": اسم فاعل، من أراب، أي: أتى بريبة، وأربته: أوقعته في الريبة. ونسبة الإرابة إلى الشك مجاز. والمراد: وصفه بالشدة والإظلام، بحيث إنه يوقع في شك آخر. يقول الحق جلّ جلاله: { ولو ترى } يا محمد، أو: يا مَن تصح منه الرؤية، الكفرةَ. { إِذ فَزِعُوا } حين فزعوا عند صيحة البعث، لرأيت أمراً فظيعاً هائلاً، { فلا فَوْتَ } أي: لا مهرب لهم، أو: فلا يفوتون الله ولا يسبقونه. { وأُخذوا } إلى النار { من مكان قريبٍ } من المحشر إلى قعر جنهم. أو: ولو ترى إذ فزعوا عند الموت فلا فوت منه، وأُخذوا من ظهر الأرض إلى بطنها، أو: إذا فزعوا يوم بدر، وأُخذوا من صحراء بدر إلى القليب. { وقالوا } حين عاينوا العذاب: { آمنَّا به } أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم لمرور ذكره في قوله:مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّنْ جِنَّةٍ } [سبأ: 46] أو: بالله، أو: بالقرآن المذكور في قوله: { فبما يُوحي إليَّ ربي } { وأَنَّى لهم التناوشُ } أي: التناول. من قرأه بالواو فوجهه: أنه مصدر: ناش، ينوش، نوشاً، أي: تناول، وهي لغة حجازية، ومنه: تناوش القوم في الحرب: إذا تدانوا، وتناول بعضهم بعضاً، أي: ومن أين لهم تناول التوبة وقد بَعدت عنهم، يعني أن التوبة كانت منهم قريبة، تُقبل منهم في الدنيا، وقد ذهبت الدنيا وبَعُدت عن الآخرة. وقيل: هو تمثيل لطلبهم ما لا يكون، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، كما نفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا، فمُثِّلت حالهم بحال مَن يريد أن يتناول الشيء من غَلْوة كما يتناوله الآخر من ألف ذراع. ووجه مَن قرأه بالهمز: أنه مصدر: تناءش، بمعنى أبطأ، أو: بعُد، يقال: تناءشت الشيء: أخذته من بُعْدٍ. النئيش: الشيء البطيء، كما قال الشاعر:
وجئْتَ نئيشاً بَعْدَما فَاتَكَ الخير   
أي: جئت بطيئاً. وقيل: الهمز بدل الواو، كالصائم، والقائم، وأقتت. والمعنى: ومن أين لهم حصول الإيمان المتعذر بعد حصول البعد عن وقته. { وقد كفروا به من قبل } حصول العذاب، أو: قبل الموت في الدنيا، { ويُقْذَفُون بالغيب من مكان بعيدٍ } هو عطف على " كفروا " على حكاية الحال الماضية، أي: وقد كفروا في الدنيا، ورَموا بظنونهم في الأمور المغيبة، فقالوا: لا بعث ولا حساب، ولا جنة ولا نار. { من مكان بعيد } عن الحق والصواب، أو: هو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، شاعر، ساحر، كذاب، وهو رجم بالغيب إذ لم يشاهدوا منه سحراً ولا شعراً ولا كذباً. وقد أتوا بهذا الأمر من جهة بعيدة من حاله صلى الله عليه وسلم إذ لم يعرفوه إلا بالصدق، والأمانة، ورجاحة العقل. { وحِيلَ بينهم وبين ما يشتهون } من نفع الإيمان يومئذ، والنجاة به من النيران، والفوز بنعيم الجنان، أو بين الرد إلى الدنيا، كما حُكِيَ عنهم بقوله:

السابقالتالي
2