الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَـٰذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } * { وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ } * { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ ءَاتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ }

يقول الحق جلّ جلاله: { وإِذا تُتلى عليهم آياتنا } أي: إذا قُرئت عليهم آيات القرآن، { بيناتٍ } واضحات، { قالوا } أي: المشركون { ما هذا }؟ يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم { إِلا رَجُل يُريد أن يَصُدَّكُم }: يصرفكم { عما كان يعبد آباؤُكم } من الأصنام. { وقالوا ما هذا } أي: القرآن { إِلا إِفْكٌ }: كذب { مُّفترىً } بإضافته إلى الله تعالى. { وقال الذين كفروا } أي: وقالوا. والعدول عنه دليلٌ على إنكار عظيم، وغضب شديد، حيث سجّل عليهم بالكفر والجحد، { للحقِّ لَمَّا جاءهم } أي: للقرآن، أو لأمر النبوة كله، لما عجزوا عن معارضته، قالوا: { إِن هذا إِلا سحر مبين } أي: ما هذا إلا سحر ظاهر سِحريتُه. وإنكارهم أولاً باعتبار معناه، وثانياً باعتبار لفظه وإعجازه، ولذلك سمُّوه سحراً. قال تعالى: { وما آتيناهم من كُتُبٍ يَدْرُسُونها } أي: ما أعطينا مشركي مكة كُتباً يدرسونها، فيها برهان على صحة الشكر. { وما أرسلنا إِليهم قبلك من نذيرٍ } أي: ولا أرسلنا إليهم نذيراً يُنذرهم بالعقاب إن لم يشركوا، ويدعوهم إليه، إذ لا وجه له، فمن أين وقع لهم هذه الشبهة؟ وهذا في غاية التجهيل لهم، والتسفيه لرأيهم. ثم هدّدهم بقوله: { وكذّب الذين من قبلهم } أي: وكذّب الذين تقدّموا من الأمم الماضية، والقرون الخالية، الرسل، كما كذّب هؤلاء. { وما بَلَغُوا مِعْشَارَ ما آتيناهم } أي: وما بلغ أهل مكة عُشر ما أُوتي الأولون، من طول الأعمار، وقوة الأجرام، وكثرة الأموال والأولاد، وتوالي النعم، والظهور في البلاد. والمِعشار: مِفعال، من: العشر، ولم يأتِ هذا البناء إلا في العشرة والأربعة. قالوا: معشار ومرباع. وقال في القوت: المعشار: عشر العشر. { فكذَّبوا رسلي } أي: فكذبت تلك الأمم رسلي، { فكيف كان نكيرِ } أي: فانظر كيف كان إنكاري عليهم بالهلاك والتدمير. فالنكير: مصدر، كالإنكار معنى، وكالنذير وزناً. و كيف للتعظيم، لا لمجرد الاستفهام، أي: فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال، ولم تغن عنهم تلك الأموال والأولاد، وما كانوا مستظهرين به من الرئاسة والجاه، فليحذر هؤلاء أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك لمشاركتهم لهم في الكفر والعدوان. الإشارة: تكذيب الصادقين سُنَّة ماضية، وكل مَن ظهر بخصوصية يجذب الناس إلى الله، ويخرجهم من عوائدهم، قالوا: ما هذا إلا سحر مفترى، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، فحين كذَّبوا أولياء زمانهم حُرموا بركتهم، فبقوا في عذاب الحرص والتعب، والهلع والنصب. قال القشيري: إن الحكماء والأولياء ـ الذين هم الأئمة في هذه الطريقة ـ إذا دَلوا الناسَ على الله، قال إخوانهم من إخوان السوء ـ وربما كان من الأقارب وأبناء الدنيا: مَن ذا الذي يطيق هذا؟ ولا بُد من الدنيا ما دمت تعيش!.. وأمثال هذا كثير، حتى يميل ذلك المسكين من قِبل النصح، فيهلك ويضل. هـ. باختصار. وقال في قوله تعالى: { وما آتيناهم من كُتُب يدرسونها.. } ما حاصله: إن أرباب القلوب إذا تكلموا بالحقائق، على سبيل الإلهام والفيض، لا يطلب منهم البرهان على ما نطقوا به، فإذا طالبهم أهل القبلة بذلك، فسبيلهم السكوت عنهم، حتى يجيب عنهم الحق تعالى. هـ. وبالله التوفيق. ثم أمر بالتفكر والاعتبار فقال: { قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ... }