الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } * { أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

قلت: { يا جبال }: بدل من { فضلاً } ، أو يقدر: وقلنا. و { الطير }: عطف على محل الجبال، ومَن رفعه فعلى لفظه. يقول الحقّ جلّ جلاله: { ولقد آتينا داودَ منا فضلاً } أي: مزية خُصّ بها على سائر الأنبياء، وهو ما جمع له من النبوة، والمُلك، والصوت الحسن، وإلانة الحديد، وتعلم صنعة الزرد، وغير ذلك مما خُص به، أو: فضلاً على سائر الناس بما ذكر، وقلنا: { يا جبالُ أوّبي معه } رَجّعي معه التسبيح. ومعنى تسبيح الجبال معه: أن الله تعالى يخلق فيها تسبيحاً، فيسمع منها كما يسمع من المسبّح، معجزة لداود عليه السلام، فكان إذا تخلّل الجبال وسبّح جاوبته الجبال بالتسبيح، نحو ما سبّح به. وهو من التأويب، أي: الترجيع، وقيل: من الإياب بمعنى الرجوع، أي: ارجعي معه بالتسبيح. { والطيرَ } أي: أوبي معه، أو: وسخرنا له الطير تؤوب معه. قال وهب: فكان داود إذا نادى بالنياحة على نفسه، من أجل زلته، أجابته الجبال بصداها، وعكفت الطير عليه من فوقه، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس منها هو من ذلك اليوم. قال القشيري: يُقال أوحى الله إلى داود عليه السلام: كانت تلك الزلة مباركة عليك، فقال: يا رب وكيف تكون الزلة مباركة؟ فقال: كُنتَ تجيء بأقدار المطيعين، والآن تجيء بانكسار المذنبين، يا داود أنين المذنبين أحب إليّ من صراخ العابدين. هـ. مختصراً. وفي هذا اللفظ من قوله: { يا جبال أوبي معه } من الفخامة ما لا يخفى، حيث جُعلت الجبال بمنزلة العقلاء الذين إذا أمرهم بالطاعة أطاعوا، وإذا دعاهم أجابوا، إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد إلا وهو منقادٌ لقدرة الله تعالى ومشيئته. ولو قال: آتينا داود منا فضلاً تأويب الجبال معه والطير لم يكن فيه هذه الفخامة. { وألنّا له الحديدَ } أي: جعلناه له ليناً، كالطين المعجون، يصرفه بيده كيف يشاء، من غير نار ولا ضرب بمطرقة، قيل: سبب لينه له: أنه لما مَلك بني إسرائيل، وكان من عادته أن يخرج متنكراً، ويسأل كل مَن لقيه: ما يقول الناس في داود؟ فيثنون خيراً، فلقي ملكاً في صورة آدمي، فسأله، فقال: نِعْمَ الرجل، لولا خصلة فيه: يأكل ويطعم عياله من بيت المال، فتنبّه، وسأل الله تعالى أن يسبب له سبباً يُغنيه عن بيت المال، فألان له الحديد مثل الشمع، وعلّمه صنعة الدروع، وهو أول مَن اتخذها. وكانت قبل ذلك صفائح. ويقال: كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف، فيأكل ويُطعم عياله، ويتصدّق على الفقراء والمساكين. وقيل: كان يلين له ولمَن اشتغل معه له، قُلت: ذكر ابن حجر في شرح الهمزية أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان إذا وطىء على صخرة أثر فيها قدمه، وهذا أبلغ من إلانة الحديد لأن لين الحجارة لا يعرف بنار، ولا بغيرها، بخلاف الحديد.

السابقالتالي
2