الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِيۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً }

يقول الحق جلّ جلاله لرسوله صلى الله عليه وسلم: { تُرْجي من تشاء منهن } أي: تؤخرها في القسمة، { وتُؤوي إِليك من تشاء } أي: تضمها إليك، والمعنى: تترك مضاجعة مَن تشاء منهن وتضاجع مَن تشاء، فقد خيّره الله في القسمة وعدمها. قال أبو رزين: لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يُطلَّقن، فقلن: يا نبيَّ الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت، ودَعْنا على حالنا، فكان ممن أرجى منهن: سودة، وجويرية، وصفية، وميمونة، وأم حبيبة، فكان يقيم لهن ما يشاء، وكان ممن آوى إليه عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وزينب، فكان يقسم لهن بالسوية، لا يفضل بعضهن على بعض. فآوى أربعاً وأرجى خمساً. وقيل: إنه كان صلى الله عليه وسلم يسوّي بين الجميع في القسم، إلا سودة، فإنها وهبت ليلتها لعائشة، حين همّ بطلاقها، وقالت: لا تطلّقني حتى أُحْشَر في زمرتك وفي نسائك. والجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعدل في القسمة بين نسائه، أخذاً منه بأفضل الأخلاق، مع أن الله خيّره. وقيل: { تُرجي من تشاء } أي: تطلق من تشاء منهن، وتُمسك من تشاء. وقيل: تترك تزوج من شئت من أمتك، وتتزوج من شئت. { ومن ابتغيتَ مِمَّنْ عزلتَ فلا جُناحَ عليك } أي: ومَن دعوت إلى فراشك، وطلبت صحبتها، ممن عزلت عن نفسك بالإرجاء، فلا ضيق في ذلك، أي: ليس إذا عزلتها من القسمة، أو من العصمة، لم يجز لك ردّها إلى نفسك، بل افعل ما شئت، فلا حرج عليك. { ذلك } التفويض إلى مشيئتك { أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنهنَّ ولاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُن } أي: هو أقرب إلى قرة أعينهن، وقلة حزنهن، ورضاهن جميعاً لأنه إذا علمن أنّ هذا الحكم من عند الله اطمأنت نفوسهنّ، وذهب التغاير، وحصل الرضا، وقرّت العيون. قلت: والذي يظهر أن مَن أرجاه صلى الله عليه وسلم من النساء إنما كان بوحي، ومَن ضمه كذلك إذ لا يتصرف إلا بإذن من الله، فإذا عَلِمَ النساءُ أن الإرجاء والإيواء كان بوحي من الله رضين بذلك، وقرّت أعينهن، وزال تغايرهن، وأما مطلق التفويض إليه فقط، فلا يقطع الغيرة في العادة، فالإشارة تعود إلى حكم الإرجاء والإيواء فتأمله. و " كلهن ": تأكيد ضمير " يَرْضَيْن ". { واللهُ يعلم ما في قلوبكم } من أمر النساء، والميل إلى بعضهن، أو: يعلم ما في قلوبكم من الرضا بحُكم الله والتفويض إليه، ففيه تهديد لمَن لم يرضَ منهم بما دبَّر الله، وفوّض إلى رسوله، { وكان الله عليماً } بذات الصدور، { حليماً } لا يُعاجل بالعقوبة، فهو حقيق بأن يُتقى ويُحذر. الإشارة: إذا تحقق فناء العبد وزواله، وتكملت ولايته، كان مفوضاً إليه في الأمور، يفعل ما يشاء، ويترك ما يشاء، لم يبقَ عليه تحجير، ولم يتوجه إليه عتاب لأن العبد المملوك إذا تحققت محبة سيده له، كتب له عقد التحرير.

السابقالتالي
2