الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ عَاقِبَةُ ٱلأَمُورِ } * { وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } * { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ }

قلت: قال في الحاشية: لّمَّا ذكر حال الكافر المجادل ذكر حال المسلم، وعدّاه هنا بإلى، وفي قوله:بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [البقرة: 112]، باللام لأنه لَمَّا كان المجادل غير مُعين، ولم يخص له واحداً بعينه، عقَّبه بحال من حصل منه مطلق الاستسلام، ومَدْحُهُ يتناول مَدْحَ مَنِ اتصف بأخص الاستسلام. أو: في الآية الأخرى أتى به خاصاً، لما رتب عليه من الثواب الجزيل بقوله: { فله أجره... } إلخ، الذي لم يذكر هنا إلا بعضه، فإن اللام تقتضي الاختصاص والقصد إلى الشيء، و " إلى ": لا تقتضي ذلك. انظر ابن عرفة. وقال النسفي: عدّاه هنا بإلى وهناك باللام لأن معناه، مع اللام: أنه جعل وجهه - وهو ذاته ونفسه - سالماً لله، أي: خالصاً له، ومعناه، مع " إلى ": أنه سلّم نفسه كما يُسلم المتاع إلى الرجل، إذا دفع إليه. والمراد: التوكل عليه والتفويض إليه. هـ. أي: فهو أبلغ من اللام، ومثله البيضاوي. يقول الحق جل جلاله: { ومن يُسْلِمْ وَجْهَه إلى الله } أي: ينقد إليه بكليته، وينقطع إليه بجميع شراشره، بأن فوض أمره إليه، وأقبل بكُلِّيَّتِهِ عليه، { وهو محسن } في أعماله. قال القشيري: من أَسْلَمَ نَفْسُه، وأخلص في الله قَصْدَهُ، فقد استمسك بالعروة الوثقى. هـ. فالاستسلام قد يكون بغير إخلاص، فلذلك قال: { وهو محسن }. قاله المحشي. وقلت: وفيه نظر فإن الحق تعالى إنما عبَّر بالإسلام لا بالاستسلام، وإنما المعنى: أسلم وجهه في الباطن، وهو محسن بالعمل في الظاهر، { فقد استمسك بالعُرْوَةِ الوُثْقَى } ، أي: تعلق بأوثق ما يتعلق به فالعروة: ما يستمسك به. والوثقى: تأنيث الأوثق. مثّلَ حال المسلم المتوكل بحال من أراد أن يَتَدَلَّى من شاهق جبل، فاحتاط لنفسه، بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين، مأمونٍ انقطاعُهُ. قال الهروي: أي: تمسك بالعقد الوثيق. وقال الأزهري: أصله: من عروة الكلأ، وهو: ماله أصل ثابت في الأرض، من الشيح وغيره من الشجر المستأصل في الأرض. ضُربَتْ مثلاً لكل ما يُعْتَصَمُ به ويُلْجأُ إليه. هـ. وهو إشارة لكون التوحيد سبباً وأصلاً، والآخِذُ به، مُّتصلاً بالله، لا يخشى انقطاعاً ولا هلاكاً، بخلاف الشرك، فإنه على الضد، كما يرشد إليه قوله تعالى:وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ... } [إبراهيم: 26] الآية. وقوله تعالى:وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ } [الحج: 31] الآية. { وإلى الله عاقبة الامور } أي: صائرة إليه فيُجازى عليها. { ومن كَفَرَ } ولم يسلم وجهه لله، { فلا يَحْزُنك كُفْرُه } فلا يهمك شأنه، فَسَيَقْدِمُ علينا ونجازيه، { إلينا مرجعُهم فننبئهم بما عملوا } ، أي: فنعاقبهم على أعمالهم، { إن الله عليم بذات الصور } ، أي: عالم بحقائق الصدور، وما فيها، فيجازى على حسبها، فضلاً عما في الظواهر، { نُمتعهم قليلاً } ، أي: نمتعهم زماناً قليلاً بدنياهم، { ثم نضطرهم } ، نلجئهم { إلى عذابٍ غليظٍ } شديد.

السابقالتالي
2