الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } * { فِيهِ ءَايَٰتٌ بَيِّنَـٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَٰلَمِينَ }

قلت: { بكة }: لغة في مكة، والعرب تعاقب بين الباء والميم، تقول: ضربة لازم ولازب، وأغبَطَتْ عليه الحُمِّى وأغْمَطَتْ، وقيل: { مكة } بالميم: اسم للبلد كله، وبكة: اسم لموضع البيت، سميت بذلك لأنها تبك أعناق الجبابرة – أي: تدقها – فما قصدها جبَّار بسوء إلا قصمه الله. و { مباركاً }: حال من الضمير في المجرور، والعامل فيه الاستقرار، أي: الذي استقر ببكة مباركاً، و { مقام إبراهيم }: مبتدأ، والخبر محذوف، أي: منها مقام إبراهيم، أو بدل من { آيات } ، بدل البعض من الكل، أو عطف بيان، على أن المراد بالآيات: أثر القدم في الصخرة الصمَّاء، وغوصُوها فيها إلى الكعبين، وتخصيصُها بهذه المزيَّة من بين الصخور، وإبقاؤه دون سائر آثار الأنبياء، وحفظه مع كثرة أعدائه ألوف سنة، فكان مقام إبراهيم، وإن كان مفرداً، في قوة الجمع، ويدل عليه أنه قرئ { آية }: بالتوحيد. وقيل: { الآيات }: مقام إبراهيم، وأمْنُ من دخله، فعلى هذا يكون: { ومن دخله } ، عطفاً على { مقام } ، وعلى الأول: استئنافاً. و { حج البيت } مبتدأ، و { لله }: خبر، والفتح لغة الحجاز، والكسر لغة نجد، و { من استطاع }: بدل من { الناس } ، وقيل: فاعل. يقول الحقّ جلّ جلاله: { إن أول بيت وضع } في الأرض { للناس } للذي استقر بمكة، وبعده بيت المقدس، وبينهما أربعون سنة. بنت الأولَ الملائكة حيالَ البيت المعمور، وأمر اللّهُ مَنْ في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور، ثم بُنِيَ الثاني. وقيل: بناهما آدم عليه السلام ثم جدَّد الأول إبراهيمُ. حال كونه { مباركاً } لأنه يتضاعف فيه الحسنات، بكل واحدة مائة ألف، وتكفر فيه السيئات، وتنزل في الرحمات، وتتوارد فيه النفخات. { فيه آيات بينات } واضحات، منها: الحجر الذي هو { مقام إبراهيم } ، وهو الذي قام عليه حين رفع القواعد من البيت، فكان كلما طال البناء ارتفع به الحجر في الهواء، حتى أكمل البناء، وغرقت فيه قدمه كأنه طين، ومنها: أن الطير لا تعلوه، ومنها: إهلاك أهل الفيل وردُّ الجبابرة عنه، ونبع زمزم لهاجر بهمز جبريل عليه السلام، وحفر عبد المطلب لها بعد دُثُورها، وأن ماءها ينفع لما شُرب له، { ومن دخله كان آمناً } من العقاب في الدارين لدعاء الخليل:رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءَامِناً } [إبراهيم: 35]، فكان في الجاهلية كل من فعل جريمةً، ثم لجأ إليه لا يُهَاج ولا يعاقب ما دام به، وأما في الإسلام فإن الحرم لا يمنع من الحدود ولا من القصاص، وقال أبو حنيفة: الحكم باق، وإن من وجب عليه حد أو قصاص فدخل الحرم لا يهاج، ولكن يُضيَّق عليه، فلا يطعم ولا يباع له حتى يخرج. قال – عليه الصلاة والسلام: " مَنْ مَاتَ في أحد الحرمين بعثه اللّهُ من الآمنين "

السابقالتالي
2