الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ ٱلتَّورَاةُ وَٱلإنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } * { هٰأَنْتُمْ هَؤُلاۤءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } * { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { إِنَّ أَوْلَى ٱلنَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ وَهَـٰذَا ٱلنَّبِيُّ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

قلت: { ها أنتم }: أصله: أنتم، دخلت عليه هاء التنبيه، وقال الأخفش: أصله: أأنتم، فقلبت الهمزة الأولى هاء، كقوله: هرقت. وتوجيه القراءات معلوم في محله، و { أنتم }: مبتدأ، و { هؤلاء }: خبره، و { حاججتم }: جملة مبينة للأولى، أو { حاججتم }: خبر، و { هؤلاء }: منادى بحذف النداء، و { حنيفاً }: حال، أي: مائلاً عن الأديان إلا دين الإسلام. يقول الحقّ جلّ جلاله: { يا أهل الكتاب لم تُحاجون في إبراهيم } ، ويدعي كل فريق أنه كان على دينه، { وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده } ، فكيف يكون يهوديّاً، ودينكم إنما حدث بعد إبراهيم بألف سنة؟! وكيف يكون نصرانيّاً، ودين النصارنية إنما ظهر بعد إبراهيم بألفي سنة؟! { أفلا تعقلون } فتدعون المحال، { هاأنتم } يا { هؤلاء } الحمقى { حاججتم فيما لكم به علم } من أمر محمد - عليه الصلاة والسلام - ونبوته، مما وجدتموه في التوراة والإنجيل، فأنكرتموه عناداً وحسداً، فَلِمَ تجادلون فيما لا علم لكم به، ولا ذكر في كتابكم من شأن إبراهيم؟ { والله يعلم } ما خصمتم فيه، { وأنتم لا تعلمون } ، بل أنتم جاهلون. ثم صرّح بتكذيب الفريقين فقال: { ما كان إبراهيم يهوديّاً ولا نصرانيّاً ولكن كان حنيفاً } مائلاً عن العقائد الزائفة، { مسلماً } منقاداً لأحكام ربه. وليس المراد أنه كان على ملة الإسلام، وإلا لكان مشترك الإلزام، لأن دين الإسلام مؤخر أيضاً، فكان إبراهيم إمام الموحدين، { وما كان من المشركين } كما عليه اليهود والنصارى والمشركون. ففيه تعريض بهم، ورد لادعائهم أنهم على ملته. ثم ذكر مَنْ أولى الناس به، فقال: { إن أولى الناس بإبراهيم } أي: أخصهم به وأقربهم منه، { للذين اتبعوه } من أمته في زمانه، { وهذا النبيّ } محمد صلى الله عليه وسلم، { والذين آمنوا } لموافقتهم له في أكثر الأحكام، قال صلى الله عليه وسلم: " لكُلِّ نَبيَ وُلاة مِنَ النَّبيِّينَ، وإنَّ وَلِيِّي منهم أبِي وَخَلِيل ربِّي " يعني إبراهيم عليه السلام، { والله ولي المؤمنين } أي: ناصرهم على سائر الأديان، ومجازيهم بغاية الإحسان. الإشارة: ترى كثيراً من المتفقرة يخصون الكمال بطريقهم، ويخاصمون في طريق غيرهم، وهي نزعة أهل الكتاب، حائدة عن الرشد والصواب، فأولى بالحق من اتبع السنة المحمدية، وتخلق بالأخلاق المرضية، وزهد في الدارين، ورفع همته عن الكونين، ورفع حجاب الغفلة عن قلبه، حتى أشرقت عليه أنوار ربه، واتصل بأهل التربية النبوية، فزجوا به في بحار الأحدية، ثم ردوه إلى مقام الصحو والتكميل، فيا له من مقام جليل، فهذه ملة إبراهيم الخليل، وبها جاء الرسول الجليل حبيب الرحمن، وقطب دائرة الزمان، سيد المرسلين، وإمام العارفين، ورسول رب العالمين، صلى الله عليه وسلم دائماً إلى يوم الدين.