الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } * { رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ وَٱتَّبَعْنَا ٱلرَّسُولَ فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ } * { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ }

قلت: { من أنصاري إلى الله }: الجار يتعلق بحال محذوفة، أي: ذاهباً إلى الله إلى نَصْر دينه، أو مُضيفاً نفسه إلى الله، أو ملتجئاً إلى الله، أو يتعلق بـ { أنصاري } مضمِّناً معنى الإضافة، أي: من يضيف نفسه إلى الله في نصره. وحواري الرجل: خاصته، الذي يستعين بهم في نوائبه، وفي الحديث عنه - عليه الصلاة والسلام-: " لكلِّ نبي حَوَاري، وحَوارِيي، الزُّبَيْر " وحواريوا عيسى: أصحابه الذين نصروه، وسموا بذلك لخلوص نيتهم ونقاء سريرتهم. والحَوَرُ: البياض الخالص، وكل شيء بيَّضته فقد حوَّرْته، ويقال للبيضاء من النساء: حوارية. وقيل: كان الحواريون قًصَّارين، يُحَوِّرُون الثياب، أي: يبيضونها، وقيل: كانوا ملوكاً يلبسون البياض. يقول الحقّ جلّ جلاله: { فلما أحسن عيسى } من بني إسرائيل { الكفر } ، وتحققه تَحَقُّقَ ما يدرك بالحواس، بعدما بُعث إليهم، وأرادوا قتله، فرَّ منهم واستنصر عليهم، و { قال من أنصاري } ملجئاً { إلى الله } ، أو ذاهباً إلى نصر دينه، { قال الحواريون نحن أنصار الله } أي: أنصار دينه، { آمنا بالله وأشهد } علينا بأننا { مسلمون } لتشهد لنا يوم القيامة، حين يشهد الرسل لقومهم، { ربنا آمنا بما أنزلت } على نبيك من الأحكام، { واتبعنا الرسول } عيسى عليه السلام، { فاكتبنا مع الشاهدين } بوحدانيتك، أو مع الذين يشهدون لأنبيائك بالصدق، أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم، أو مع أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - فإنهم شهداء على الناس. قال عطاء: سَلَمَتْ مريمُ عيسى إلى أعمال شتى، وآخر ما دفعته إلى الحواريين، وكانوا قصَّارين وصباغين، فأراد مُعلّم عيسى السفر، فقال لعيسى: عندي ثياب كثيرة مختلفة الألوان، وقد علمتك الحرفة فاصبغها، فطبخ جُبّاً، واحداً، وأدخل فيه جميع الثياب، وقال لها: كوني على ما أريد، فقدم الحواريُ، والثياب كلها في الجب، فلما رآها قال: قد أفسدتها، فأخرج عيسى ثوباً أصفر، وأحمر، وأخضر، إلى غير ذلك، فعجب الحواري، وعلم أنَّ ذلك من الله تعالى، ودعا الناس إليه، وآمنوا به، ونصروه، فهم الحواريون. ولما أخرجه بنو إسرائيل عاد إليهم مع الحواريين، وصاح فيهم بالدعوة، فهمُّوا بقتله، وتواطؤوا عليه، { ومكروا } أي: دبروا الحيل في قتله، { ومكر الله } بهم، أي: استدرجهم حتى قتلوا صاحبهم، ورُفع عيسى عليه السلام، فالمكر في الأصل: هو حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة. ولا تُسند إلى الله إلى على حسب المقابلة والازدواج: كقوله:يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } النِّساء: 142]، وقوله:اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } [البقرة: 15]، { والله خير الماكرين }. أي: أشدهم مكراً، وأقواهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب، أو أفضل المجازين بالعقوبة لأنه لا أحد أقدر على ذلك منه. تنبيه: قيل للجنيد رضي الله عنه: كيف رَضِيَ المكرَ لنفسه، وقد عابه على غيره؟ قال: لا أدري، ولكن أنشدني فلان للطبرانية:

السابقالتالي
2