الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } * { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } * { قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ }

قلت: { هنالك }: اسم إِشارة للبعيد، والكاف: حرف خطاب، يطابق المخاطب في التذكير والتأنيث والإفراد والجمع في الغالب. والمحراب: مفعال، من الحرب، وهو الموضع المعد للعبادة، كالمسجد ونحوه، سمي به، لأنه محل محاربة الشيطان. { والملائكة }: جمع تكسير، يجوز في فعله التذكير والتأنيث، وهو أحسن، تقول: قام الرجال وقامت الرجال، فمن قرأ: { فنادته الملائكة } ، فعلى تأويل الجماعة، ومن قرأ: { فناداه } ، أراد تنزيه الملائكة عن التأنيث، ردّاً على الكفار. والمراد هنا: جبريل عليه السلام كقوله:يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ } [النّحل: 2]،وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ } [آل عِمرَان: 42]، و { بشر }: فيها لغتان: التخفيف، وهي لغة تهامة، تقول: بَشَرَ يَبْشُر - بضم الشين في المضارع، والتشديد، وهو أفصح، تقول بَشْر يُبَشّر تبشيراً. يقول الحقّ جلّ جلاله: مخبراً عن زكريا عليه السلام: { هنالك } أي: في ذلك الوقت الذي رأى من الخوارق عند مريم، { دعا زكريا ربه } ، فدخل المحراب، وغلق الأبواب، وقال في مناجاته: { ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبة } ، كما وهبتها لحنَّة العجوز العاقر، { إنك سميع الدعاء } أي: مجيبه فاسمع دعائي يا مجيب، { فنادته الملائكة } ، وهو جبريل، لأنه رئيس الملائكة، والعرب تنادي الرئيس بلفظ الجميع إذ لا يخلو من أصحاب، { وهو قائم يصلي في المحراب } رُوِيَ: أنه كان قائماً يصلّي في محرابه، فدخل عليه شاب، عليه ثياب بيض، ففزع منه، فناداه، وقال له: { إن الله يبشرك بيحيى } ، سمي به لأن الله تعالى أحيا به عقم أمه، أو لأن الله تعالى أحيا قلبه بمعرفته، فلم يهم بمعصية قط، أو لأنه استشهد، والشهداء أحياء. { مصدقاً بكلمة من الله } وهو عيسى، لأنه كان بكلمة: كُنْ، من غير سبب عادي، و { سيداً } أي: يسود قومه يوفُوقهم، و { حصوراً } ، أي: مبالغاً في حبس النفس عن الشهوات والملاهي. رُوِيَ أنه مرَّ في صباه على صبيان، فدعوه إلى اللعب، فقال: ما للعب خلقت، أو عِنِّيناً، رُوِيَ: " أنه كان له ذَكَرٌ كالقذاة " رواه ابن عباس. وقال في الأساس: رجل حصور: لا يرغب في النساء. قيل: كان ذلك فضيلة في تلك الشريعة، بخلاف شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وفي الورتجبي: الحصور: الذي يملك ولا يُملك. وقال القشيري: { حصوراً }: أي: مُعْتَقاً من الشهوات، مَكْفِيّاً أحكام البشرية، مع كونه من جملة البشر، { ونبيّاً من الصالحين } الذي صلحوا للنبوة وتأهلوا للحضرة. ولما سمع البشارة هزَّه الفرحُ فقال: يا { رب أنى يكون لي غلام } أي: من أين يكون لي غلام؟! قاله استعظاماً أو تعجباً أو استفهاماً عن كيفية حدوثه. هل مع كبر السن والعقم، أو مع زوالهما. { وقد بلغني الكبر } ، وكان له تسع وتسعون سنة، وقيل: مائة وعشرون، { وامرأتي عاقر } لا تلد، ولم يقل: عاقرة، لأنه وصف خاص بالنساء.

السابقالتالي
2