الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } * { فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } * { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

قلت: { ألاَّ خَوف عليهم }: بدل من { الذين لم يلحقوا } ، أو مفعول لأجله، وكرر: { يستبشرون } ليذكر ما تعلق به من الفضل والنعمة، أو: الأول بحال إخوانهم، وهذا بحال أنفسهم. يقول الحقّ جلّ جلاله: { ولا تحسبن } أيها الرسول، أو أيها السامع، { الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل } هم { أحياء } لأن الله تعالى جعل أرواحهم في حواصل طير خضر، يسرحون في الجنة حيث شاءوا عند ربهم، بالكرامة والزلفى، يُرزقون من ثمار الجنة ونعيمها، فحالهم حال الأحياء في التمتع بأرزاق الجنة، بخلاف سائر الأموات من المؤمنين فإنهم لا يتمتعون بالأرزاق حق يدخلوا الجنة. قاله ابن جزي. قلت: شهداء الملكوت - وهم العارفون - أعظم قدراً من شهداء السيوف، وراجع ما تقدم في سورة البقرة. { فرحين بما آتاهم الله من فضله } من الكرامة والزلفى والنعيم الذي لا يفنى، { ويسبشرون بالذين لم يلحقو بهم من خلفهم } أي: بإخوانهم الذي لم يُقتلوا فيلحقوا بهم من بعدهم. وتلك البشارة هي: { ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون } ، أو من أجل { ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون }. والحاصل: أنهم يستبشرون بما تبين لهم من الكرامة في الآخرة، وبحال من تركوا من خلفهم من المؤمنين، وهو أنهم إذا ماتوا أو قُتلوا، كانوا أحياء، حياة لا يدركها خوفُ وقوعِ محذور، ولا حزن فوات محبوب. فالآية تدل على أن الإنسان غير الهيكل المحسوس، بل هو جوهر مُدرِك بذاته، لا ينفى بخراب البدن، ولا يتوقف على وجود البدن إدراكه وتألمُه والتذاذه. ويؤيد ذلك قوله تعالى في آل فرعون:النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواً وَعَشِيّاً } [غَافِر: 46]، وما رَوى ابنُ عباس من أنه صلى الله عليه وسلم قال: " أرْواحُ الشهداء في أجْوافِ طَيْرِ خَضْرٍ، تَرِدُ أنْهارَ الجنّةِ، وتَأكُلُ منْ ثِمارِها، وتَأوِي إلى قَنَادِيلَ مُعلَّقةٍ في ظلِّ العَرشِ " - قال معناه البيضاوي. ولمّا ذكر استبشارهم بإخوانهم ذكر استبشارهم بما يخصهم فقال: { يستبشرون بنعمة من الله } وهو ثواب أعمالهم الجسماني، { وفضل } وهو نعيم أرواحهم الروحاني، وهو النظر إلى وجهه الكريم، ويستبشرون أيضاً بكونه تعالى { لا يضيع أجر المؤمنين } ، ماتوا في الجهاد أو على فرشهم، حيث حسنت سريرتهم وكرمت علانيتهم، قال صلى الله عليه وسلم: " إن لله عباداً يصرفهم عن القتل والزلازل والأسقام، يطيل أعمارهم في حسن العمل، ويحسن أرزاقهم، ويحييهم في عافية، ويميتهم في عافية على الفرش، ويعطيهم منازل الشهداء " قلت: ولعلهم العارفون بالله، جعلنا الله من خواصهم، وسلك بنا مسالكهم. آمين. الإشارة: لا تحسبن الذي بذلوا مُهجهم، وقتلوا أنفسهم بخرق عوائدها، وعكس مراداتها، في طلب معرفة الله، حتى ماتت نفوسهم، وحييت أرواحهم بشهود محبوبهم، حياة لا موت بعدها، فلا تظن أيها السامع أنهم أموات، ولو ماتوا حسّاً، بل هم أحياء على الدوام، وفي ذلك يقول الشاعر:

السابقالتالي
2