الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَٱللَّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

قلت: { غُزّي }: جمع غازٍ، كعافٍ وعفى، وإنما وضع { إذا } موضع { إذ } لحكاية الحال، يقول الحقّ جلّ جلاله: { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا } ونافقوا، كعبد الله بن أُبي، وأصحابه، { وقالوا لإخوانهم } في النسب، أو في المذهب، أي: قالوا لأجلهم أو في شأنهم، { إذا ضربوا في الأرض } أي: سافروا للتجارة أو غيرها فماتوا، { أو كانوا غُزًّى } أي: غازين فقتلوا في الغزو: { لو كانوا عندنا } مُقيمين { ما ماتوا وما قتلوا } ، وإنما نطقوا بذلك { ليجعل الله ذلك } القول الناشىء عن الاعتقاد الفاسد { حسرة في قلوبهم } بالاغتمام على ما فات، والتحسر على ما لم يأت، { والله } هو { يحيي ويميت } بلا سبب في الإقامة والسفر، فليس يمنع حذر من قدر، { والله بما تعملون } ، أيها المؤمنون { بصير } ، ففيه تهديد لهم على أن يُماثلوا المنافقين في هذا الاعتقاد الفاسد، ومن قرأ بالياء فهو تهديد لهم. والله تعالى أعلم. الإشارة: لا ينبغي للأقوياء من أهل اليقين أن يتشبهوا بضعفاء اليقين، كانوا علماء أو صالحين أو طالحين، حيث يقولون لإخوانهم إذا سافروا لأرض مخوفة أو بلد الوباء. لو جلسوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، وما دَرَوْا أن الله قدَّر الآجال كما قدَّر الأرزاق وجميع الشؤون والأحوال، وعيَّن لها أوقاتاً محدودة في أزله، فكل مقدور يبرز في وقته، " ما من نَفَسٍ تبديه، إلا وله قدر فيك يمضيه " ، فما قدَّره في سابق علمه لا بد أن يكون، وما لم يقدره لا يكون، ولا تجلبه حركة ولا سكون. ولله در القائل:
مَا لاَ يُقَدَّرُ لاَ يَكُونُ بِحِيلَةٍ أَبَداً وَمَا هُوَ كائِنٌ سَيكُونُ سَيَكُونُ ما هُوَ كائنٌ في وَقْتِهِ وَأخُو الجَهَالَةِ مُتْعَبٌ مَحْزُونُ يَجْرِي الحَريصُ ولا يَنَالُ بِحرْصِهِ شَيْئاً ويَحْظَى عَاجِزٌ وَمَهِينٌ فَدعَ الهُمُومَ، تَعَرَّ مِنْ أثْوابِهَا، إنْ كانَ عِنْدَكَ بالْقَضَاءِ يَقِينُ هَوِّنْ عَلَيْكَ وَكُنْ بِرَبِّكَ وَاثِقاً فَأخُو الحَقِيقَةِ شَأنُه التَّهْوِينُ   
وكان سيدنا عمر رضي الله عنه يتمثل بهذه الأبيات:
فَهَوَّنْ عَلَيْكَ فَإنَّ الأُمُورَ بكفِّ الإلَهِ مَقَادِيرُهَا فَلَيْسَ يَأتِيكَ مَصْرُوفُهَا ولا عَازِبٌ عَنْكَ مَقْدُورُها   
وكل من لم يحقق الإيمان بالقدر لا ينفك عن الحسرة والكدر، ومن أراد النعيم المقيم فليثلج صدره ببرد الرضا والتسليم، ومن أراد الروح والريحان فعليه بجنات العرفان، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواءه الطريق.