الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } * { ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } * { ٱلصَّابِرِينَ وَٱلصَّادِقِينَ وَٱلْقَانِتِينَ وَٱلْمُنْفِقِينَ وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلأَسْحَارِ }

قلت: { للذين }: خبر، و { جنات }: مبتدأ، وهو استئناف لبيان الخيرية، والرضوان فيه لغتان: الضم والكسر، كالعدوان والطغيان، و { الذين يقولون }: بدل من { الذين اتقوا } ، أو خبر عن مضمر، أو منصوب على المدح، أو بدل من العباد، و { الصابرين } وما بعده: نعت الموصول. يقول الحق جلّ جلاله: { قل } يا محمد: أأخبركم { بخير } من الذي ذكرتُ لكم من الشهوات الفانية واللذات الزائلة، وهو ما أعد الله للمتقين عند لقاء ربهم، وهو { جنات تجري من } تحت قصورها الأنهار من الماء واللبن والعسل والخمر، { خالدين فيها } ، لا كنعيم الدنيا الفاني، { ولهم فيها أزواج } من الحور العين، مطهرات من الحيض والنفاس وسائر المستقذرات، { ورضوان من الله } الذي هو { أكبر } النعم. فانظر: كيف ذكر الحقّ - جلّ جلاله - أدنى النعيم وأوسطه وأعلاه؟ فأدناه: متاع الدنيا الذي زُين للناس، وأوسطه: نعيم الجنان، وأعلاه: رضي الرحمن، وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: " يَقُولُ الله تعالى لأهِلْ الْجنَّةِ: يَا أهْلَ الجَنَّةِ، فيقول أهْلَ الجَنَّةِ: لَبْيكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكِ، والخير في يديك، فيقول: هَلْ رضِيتُم؟ فَيَقُولُونَ: مَالنَا لاَ نَرْضى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا ما لَمْ تُعْطِ أَحَداً مِنْ العالمين، فَيَقُولُ: ألا أعْطِيكُم أَفْضَلَ من ذلك؟ فيقُولون: يا ربنا، وأيُّ شَيء أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ قال: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رَضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُم َبَداً ". { والله بصير بالعباد } لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، فيثيب المحسن، ويعاقب المسيء، أو: { بصير } بأحوال المتقين. { الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار }. وفي ترتيب السؤال على مجرد الإيمان دليل على أنه كاف في استحقاق المغفرة والاستعداد لها. ثم وصف المتقين بقوله: { الصابرين } على أداء الأمر واجتناب النهي، وفي البأساء والضراء وحين البأس، { والصادقين } في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فاستوى سرهم وعلانيتهم، { والقانتين } أي: المطيعين، { والمنفقين } أموالهم في سبيل الله، { والمستغفرين بالأسحار } لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة لأن العبادة حينئذٍ أشق، والنفس أصفى، والروح أجمع، وَلاَ سيما للمتهجدين. قيل: إنهم كانوا يُصلُون إلى السحر، ثم يستغفرون ويدعون، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله تعالى يقول: إني لأهُمُّ بأهل الأرض عذاباً، فإذا نظرت إلى عُمَّار بيوتي، وإلى المتهجدين، وإلى المتحابين فِيَّ، وإلى المستغفرين بالأسحار، صرفت عنهم العذاب ". وقال سفيان: إن لله ريحاً يقال لها الصيحة، تهبُّ وقتَ السحر، تحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار. قال: وبلَغنا أنه إذا كان أولا لليل، نادى مناد: ألا ليقم القانتون، فيقومون يُصلون إلى السحَر، فإذا كان وقت السحر، ينادي منادٍ: أين المستغفرون بالأسحار؟ فيستغفر أولئك، ويقوم آخرون، ويُصلون، فيلحقون بهم، فإذا طلع الفجر، نادى منادٍ: ألا ليقم الغافلون، فيقومون من فرشِهم كالموتى إذا نُشروا من قبورهم.

السابقالتالي
2