الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } * { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ } * { لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } * { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

قلت: { ليس لك من الأمر شيء }: جملة معترضة بين قوله: { أو يكبتهم } وقوله: { أو يتوب عليهم } ، أو تكون { أو } بمعنى { إلا } ، أي: ليس لك من الأمر شيء، إلا أن يتوب عليهم فتبشرهم، أو يعذبهم فتشفى فيهم. قاله البيضاوي. يقول الحقّ جلّ جلاله: وما جعل الله ذلك الإمداد إلا بشارة لكم بالنصر، { ولتطمئن قلوبكم به } فتثبتوا للقتال، { وما النصر إلا من عند الله } فهو قادر على أن ينصركم بلا واسطة، لكن أراد أن يثيبكم وينسب المزية إليكم، حيث قتلهم على أيديكم، فإن الله عزيز لا يغلب، حكيم فيما دبر وأبرم، وإنما نصركم يوم بدر { ليقطع طرفاً من الذين كفروا } بقتل بعض وأسر آخرين، فإنه قتل يومئذ سبعون، وأسر سبعون، { أو يكبتهم } أي: يحزنهم ويغيظهم، والكبت: شدة الغيظ، { فينقلبوا خائبين } مما أملوا. ولما جُرِحَ - عليه الصلاة والسلام - في وجهه، وشُجَّ على قرن حاجبه، وكُسِرَت رباعيته، هَمَّ بالدعاء على الكفار، بل دعا عليهم، فأنزل الله: { ليس لك من الأمر شيء } إنما أنت رسول إليهم، مأمور بإنذارهم وجهادهم، وأمرهم بيد مالكم، إن شاء هداهم وإن شاء عذّبهم. وإنما نهاه عن الدعاء عليهم لعلمه بأن منهم من يُسلم ويجاهد في سبيل الله، وقد كان كذلك فجُلَّهم أسلموا وجاهدوا، منهم خالد بن الوليد - سيف الله في أرضه. ثم عطلف على قوله: { ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم } قوله: { أو يتوب عليهم } إن أسلموا { أو يعذبهم } إن لم يسلموا، { فإنهم ظالمون } قد استحقوا العذاب بظلمهم، والأمور كلها بيد الله، { ولله ما في السماوات وما في الأرض } خلقاً وملكاً وعبيداً، { يغفر لمن يشاء } غفرانه، { ويعذب من يشاء } تعذيبه، ولا يجب عليه شيء، { والله غفور رحيم } لعباده، فلا تبادر بالدعاء عليهم. الإشارة: وما جعل الله التأييد الذي ينزله على أهل التجريد، حين يقابلهم بالابتلاء والتشديد، إذا أراد أن يوصلهم لصفاء التوحيد، إلا بشارة لفتحهم، ولتطمئن بمعرفته قلوبهم، فإن الامتكان على قدر الامتحان، وكل محنة تزيد مكنة، وهذه سنة الله في أوليائه، يسلط عليهم الخلق في بدايتهم، ويشدد عليهم ابلاء، حتى إذا طهروا من البقايا، وكملت فيهم المزايا، كف عنهم الأذى، وانقلب الجلال جمالاً، وذلك اعتناء بهم، ونصراً لهم على أنفسهم، فإن النصر كله { من عند الله العزيز الحكيم }. وذلك ليقطع عنهم طرفاً من الشواغل والعلائق، التي تقبضهم عن العروج إلى سماء الحقائق، فإن الروح إذا رقدت في ظل العز والجاه صعب خروجها من هذا العالم، فإذا ضيق عليها، وعكس مرادها، رحلت إلى عالم الملكوت، والأمر كله بيد الله. ليس لك أيها الفقير من الأمر شيء، إنما أنت مأمور بتحريك الأسباب والله يفتح الباب.

السابقالتالي
2