الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } * { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } * { ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } * { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }

يقول الحق جل جلاله: { وكأيِّن من دابة } أي: وكم دابة من داوب الأرض، عاقلة وغير عاقلة، { لا تحملُ رِزْقَها } لا تطيق أن تحمله لضعفها عن حمله، { اللهُ يرزقها وإياكم } أي: لا يرزق تلك الدواب الضعاف إلا الله، ولا يرزقكم أنتم أيها الأقوياء إلا الله، وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها لأنه لو لم يخلق فيكم قدرة على كسبها، لكنتم أعجز من الدواب. وعن الحسن: { لا تحمل رزقها }: لا تدخره، إنما تصبح خِمَاصاً، فيرزقها الله. وقيل: لا يدخر من الحيوان قوتاً إلا ابن آدم والفأرة والنملة. { وهو السميع } لقولكم: نخشى الفقر والعيْلة إن هاجرنا، { العليم } بما في ضمائركم من خوف فوات الرزق. ثم ذكر دلائل قدرته على الرزق وغيره فقال: { ولئن سألتهم } أي: المشركين وغيرهم { مَنْ خَلَقَ السماوات والأرض } على كبرهما وسعتهما، { وسخَّرَ الشمسَ والقمرَ } يجريان في فلكهما، { ليقولُنَّ اللهُ } لا يجدون جواباً إلا هذا، لإقرارهم بوجود الصانع، { فأنى يؤفكون } فكيف يُصرفون عن توحيد الله؟ مع إقرارهم بهذا كله، إذ لوتعدد الإله لفسد نظام العالم. { الله يَبسُطُ الرِزْقَ لمن يشاءُ من عباده } هاجر أو أقام في بلده، { ويقدرُ له } ويضيق عليه، أقام أو هاجر، فالضمير في { له } لمن يشاء لأنه مبهم غير معين، { إن الله بكل شيء عليم } يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم، فمنهم من يصله الفقر، ومنهم من يُفسده، ففي الحديث القدسي: " إن من عبادي من لا يُصلح إيمانه إلاَّ الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك " ذكره النسفي. { ولئن سألتهم من نزَّل من السماءِ ماء فأحيا به الأرضَ من بعد موتها ليقولن اللهُ } معترفين بأنه الموجد للكائنات بأسرها، أصولها وفروعها، ثم إنهم يُشركون به بعض مخلوقاته الذي هو أضعف الأشياء. { قل الحمد لله } على إظهار قدرته، حتى ظهرت لجميع الخلق، حتى أقرت بها الجاهلية الجهلاء. أو: على ما عصمك مما هم عليه، أو: على تصديقك وإظهار حجتك، أو: على إنزاله الماء لإحياء الأرض، { بل أكثرُهُم لا يعقلون } لا عقول لهم، فلا يتدبرون فيما يُريهم من الآيات ويقيم عليهم من الدلالات. والله تعالى أعلم. الإشارة: الرزق مضمون بيد من أَمْرُهُ بين الكاف والنون، لا يزيد بحرص قوي، ولا ينقص بعجز ضعيف، بل قد ينعكس الأمر، كما الشاعر:
كَمْ قَوِيٍّ قَوِيٍّ في تقلبه ترى عَنْهُ أَمْرَ الرَّزْقِ يَنْحَرفُ وكم ضعيفٍ ضعيفٍ في تصرفه كأنه من خليجِ البحرِ يَغْتَرِفُ   
وقد يبسطه الله لأهل الغفلة والبُعد، ويقدره لأهل الولاية والقُرب، كما قال القائل:
اللهَ يَرْزُق قَوْماً لاَ خَلاَقَ لَهُمْ مِثْلَ الْبَهَائِمِ في خَلْقِ التَّصَاوِيرِ لَوْ كَانَ عَنْ قُوَّةٍ أَوْ عَنْ مُغَالَبَةٍ طَارَ البُزَاةُ بِأرْزَاقِ الْعَصَافِيرِ   
وقال عليه الصلاة والسلام - في بعض خطبه -: " أيها الناس، إن الرزق مقسوم، لن يعدو امْرُؤٌ ما كُتِبَ له، فاتقوا الله، وأَجْمِلُوا في الطَلَبِ. وإن الأمر محدود، لن يجاوز أحد ما قُدر له، فبادروا قبل نفود الأجل، وإن الأعمال محصاة، لن يُهْمَلَ منها صغيرةٌ ولا كبيرةٌ، فأكثروا من صالح الأعمال... " الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: " لو توكلتمْ على الله حقَّ توكلِهِ، لرَزقتم كما تُرزق الطير تغدو خِمَاصاً وتروح بِطَانا ". ثم حقر الدنيا وعظّم الآخرة، فقال: { وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ... }.