الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ } * { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ فَٱسْتَكْبَرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ } * { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }

يقول الحق جل جلاله: { وعاداً وثمودَا } أي: اذكر عاداً وثموداً، أو أهلكنا عاداً، وثموداً يدل عليه { فأخذتهم الرجفة } لأنه في معنى الإهلاك، { وقد تبيَّنَ لكم } ما وصفنا من إهلاكهم { من مساكنهم } الدارسة. أو تبين لكم بعض مساكنهم الخربة إذا مررتم بها خالية. { وزيَّنَ لهم الشيطانُ أعمالهم } من الكفر والمعاصي، { فصدَّهم عن السبيل } عن الطريق الذي أُمروا بسلوكه، وهو الإيمان بالله ورسوله. { وكانوا مستبصرين } متمكنين من النظر والاستبصار وتميز الحق من الباطل ولكنهم لم يفعلوا. أو عارفين الحق من الباطل بظهور دلائله، لكنهم عاندوا، حسداً. يقال: استبصر: إذا عرف الشيء على حقيقته. أو: متيقنين أن العذاب لاحق بهم بإخبار الرسول، لكنهم لجّوا. أو: مستبصرين في ضلالتهم معجبين بها. وقال الفراء: عقلاء ذوو بصائر، يعني: علماء في أمور الدنيا، كقوله:يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [الروم: 7] الآية. وقال مجاهد: حسبوا أنهم على الحق، وهم على الباطل. هـ. { وقارونَ وفرعونَ وهامان }: أي: أهلكناهم، { ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين } فائتين، بل أدركهم أمر الله فلم يفوتوه. يقال: سبق طالبه: فاته، { فكُلاًّ أخذنا } عاقبناه { بذنبه } ، فيه رد على من يُجوز العقوبة بغير ذنب. قاله النسفي، وهو جائز عقلاً في حقه تعالى، لكنه لم يقع لإظهار عدله. { فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً } أي: ريحاً عاصفة فيها حصباء أو: مَلِكاً رماهم بها. قال ابن جزي: فيحتمل عندي أنه أراد به المعنيين لأن قوم لوط هلكوا بالحجارة، وعاداً هلكوا بالريح. وإن حملناه على المعنى الواحد نقض ذكر الآخر، وقد أجاز كثير من الناس استعمال اللفظ الواحد في معنيين، ويقوي ذلك إن المقصود عموم أصناف الكفار. هـ. { ومنهم من أخذتهم الصيحةُ } كمدين وثمود، { ومنهم من خسفنا به الأرضَ } كقارون، { ومنهم من أغرقنا } كقوم نوح، وفرعون وقومه، { وما كان الله ليظلمهم } فيعاقبهم بغير ذنب إذ ليس ذلك من عادته - عز وجل -، وإن جاز في حقه، { ولكن كانوا أنفسَهم يَظْلِمُون } بالتعرض للعذاب بالكفر والطغيان. وبالله التوفيق. الإشارة: الاستبصار في أمور الدنيا والتحديق في تدبير شؤونها، حمق وبطالة، وقد وسم به الحق تعالى الكفرة بقوله: { وكانوا مستبصرين } ، والاستبصار في أمور الله تعالى وما يقرب إليه وما يبعد عنه، والفحص عن ذلك، والتفكر في عواقب الأمور من شأن العقلاء الأكياس، قال صلى الله عليه وسلم: " ألا وإن من علامات العقل: التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، والتزود لسكنى القبور، والتأهب ليوم النشور " ، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: " الكِّيسُ من دانَ نَفْسَه وعَمِلَ لِما بعدَ الموت، والأحمق من أتْبَعَ نفسه هواها، وتمنَّى على اللهِ الأماني " ، وقيل للجنيد رضي الله عنه: متى يكون الرجل موصوفاً بالعقل؟ فقال: إذا كان للأمور متميزاً، ولها متصفحاً، وعما يوجبه عليه العقل باحثاً، فيتخيرُ بذلك طلب الذي هو أولى، ليعمل به، ويُؤْثِرَهُ على ما سواه. ثم قال: فمن كانت هذه صفته ترك العمل بما يفنى وينقضي، وذلك صفة كل ما حوت عليه الدنيا، وكذلك لا يرضى أن يشغل نفسه بقليل زائل، ويسير حائل، يصده التشاغُلُ به، والعملُ له، عن أمور الآخرة، التي يدوم نعيمها ونفعها، ويتأبد سرورها، ويتصل بقاؤها.. إلخ كلامه. وقد ضرب الله مثلاً لمن ركن إلى غير الله، فقال: { مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ.... }