الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ فَأَصْبَحَ فِي ٱلْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا ٱلَّذِي ٱسْتَنْصَرَهُ بِٱلأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } * { فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِٱلَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يٰمُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي ٱلأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِينَ } * { وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يٰمُوسَىٰ إِنَّ ٱلْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَٱخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ ٱلنَّاصِحِينَ } * { فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ }

قلت: جملة يسعى: حال من رجل لأنه وصف بالجار. يقول الحق جل جلاله: { فأصبح } موسى { في المدينةِ } أي: مصر { خائفاً } على نفسه من قتله قَوَداً بالقبطي، وهذا الخوف أمر طبيعي لا ينافي الخصوصية، { يترقبُ }: ينتظر الأخبار عنه، أو ما يقال فيه، أو يترصد الاستفادة منه. وقال ابن عطاء: خائفاً على نفسه، يترقب نصرة ربه، { فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه }: يستغيثه، مشتق من الصراخ لأنه يقع في الغالب عند الاستغاثة. والمعنى: أن الإسرائيلي الذي خلصه موسى استغاث به ثانياً من قبطي آخر، { قال له موسى } أي: للإسرائيلي: { إنك لغويٌّ مبين } أي: خال عن الرشد، ظاهر الغي، فقد قاتلتَ بالأمس رجُلاً فقتلتُه بسببك. قال ابن عباس: أُتِي فرعون، فقيل له: إن بني إسرائيل قد قتلوا منا رجلاً، فالقصاص، فقال: ابغُوني القاتل والشهود، فبينما هم يطلبون إذ مر موسى من الغد، فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونياً آخر، يريد أن يسخره، فاستغاث به الإسرائيلي على الفرعوني، فوافق موسى نادماً على القتل، فقال للإسرائيلي: إنك لغوي مبين. { فلما أن أرادَ } موسى { أن يبطش بالذي } بالقبطي الذي { هو عدو لهما } لموسى وللإسرائيلي لأنه ليس على دينهما، أو: لأن القبط كانوا أعداء بني إسرائيل، أي: فلما مدّ موسى يده ليبطش بالفرعوني، خشي الإسرائيلي أن يريده، حين قال: { إنك لغوي مبين } ، فقال: { يا موسى أتريدُ أن تقتلني كما قتلتَ نفساً بالأمس } ، يعني القبطي، { إنْ } ما { تريدُ إلا أن تكون جباراً } قتالاً بالغضب، { في الأرض } أرض مصر، { وما تريدُ أن تكون من المصلحين } في كظم الغيظ. وقيل: القائل: { يا موسى أتريد... } إلخ، هو القبطي، ولم يعلم أن موسى هو الذي قتل الرجل بالأمس، ولكن لما قصد أن يمنعه من الإسرائيلي استدل على أن الذي قتل صاحب هذا الرجل بالأمس هو موسى، فلما ذكر ذلك شاع في أفواه الناس أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس، فأمسك موسى عنه، ثم أخبر فرعون بذلك فأمر بقتل موسى. { وجاء رجلٌ من أقصى المدينة } من آخرها، واسمه: " حزقيل بن حبورا " ، مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم فرعون، { يسعى }: يُسرع في مشيه، أو: يمشي على رجله، { قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك } ، أي: يتشاورون في قتلك، ويأمر بعضهم بعضاً بذلك. والائتمار: التشاور، { فاخْرجْ } من المدينة، { إني لك من الناصحين } ، فاللام في لك: للبيان، وليس بصلة لأن الصلة لا تتقدم على الموصول، إلا أن يُتَسَامحَ في المجرور، { فخرج منها } من مصر { خائفاً يترقّبُ }: ينتظر الطلب ويتوقعه، { قال ربّ نجني من القوم الظالمين } قوم فرعون. والله تعالى أعلم. الإشارة: في الآية دليل على أن الخوف عند الدواهي الكبار لا ينافي الخصوصية لأنه أمر جِبِلِّي، لكنه يخف ويهون أمره، وفيها دليل على جواز الفرار من مواطن الهلاك، يفرّ من الله إلىالله، ولا ينافي التوكل، وقد اختفى صلى الله عليه وسلم من الكفار بغار ثور، واختفى الحسن البصري من الحَجَّاج، عند تلميذه حبيب العجمي.

السابقالتالي
2