يقول الحق جل جلاله: { كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ } وهي: الغيضة التي تنبت الشجر، والمراد بها: غيضة بقرب مدين، يسكنها طائفة منهم، وكانوا ممن بعث إليهم شعيب عليه السلام، وكان أجنبياً منهم، ولذلك قيل: { إذ قال لهم شُعيبٌ } ولم يقل: أخوهم، بخلاف مدين، فإنه منهم، ولذلك قال:{ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } [الأعراف: 85 وهود: 84 والعنكبوت: 36] وقيل: الأيكة: الشجر الملتف، وكان شجرهم المقل، وهو الدوم. قال قتادة: بعث الله شعيباً إلى أمتين أصحاب الأيكة وأصحاب مدين. فأهلك الله أصحابَ الأيكة بالظُلة، وأما أهل مدين فصاح بهم جبريل صيحة فهلكوا. وقرئ: " لَيْكَةِ " بحذف الهمزة، وإلقاء حركتها على اللام، وإنما كتبت هنا وفي " ص " باللام اتباعاً للفظ. { إِذْ قَالَ لهم شُعيبٌ أَلا تَتَّقُون } الله، فتوحدوه ولا تُطففوا، { إني لكم رسول امين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه } أي: التبليغ { من أجرٍ إنْ أجريَ إلا على رب العالمين، أوْفُوا الكَيْلَ } أي: أتموه { ولا تكونوا من المخْسِرين } أي: حقوق الناس بالتطفيف، { وزِنُوا } أشياءكم التي تبيعونها { بالقِسْطَاسِ المستقيم } السوي. والقسطاس - بضم القاف وكسرها: الميزان، فإن كان من القسط - وهو العدل، وجعلت العين مكررة - فوزنه: فُعْلاَس، وإلا فهو رباعي، ووزنه: فُعْلاَلٌ. وقيل: عجمي. { ولا تبخسوا الناس أشياءَهم } أي: لا تنقصوا شيئاً من حقوقهم، أيّ حق كان، يقال: بخسه حقه: إذا انتقصه. وقيل: نهاهم عن نقص الدراهم والدنانير بقطع أطرافها. فالكيل على ثلاثة أقسام: واف، وزائد وناقص. فأمر الحق تعالى بالوافي، ونهى عن الناقص، وسكت عن الزائد، فَتَرْكُهُ دَليلٌ على أنه إن فعله كان أحسن، وإن تركه فلا عليه. { ولا تَعْثَوا في الأرض مفسدين } ولا تبالغوا فيها بالإفساد، وذلك نحو قطع الطريق، والغارة، وإهلاك الزروع. وكانوا يفعلون ذلك فنهُوا عنه، يقال: عَثِيَ كفرح، وعثا يعثو، كنصر. { واتقوا الذي خلقكم و } خلق { الجِبلّة الأولين } أي: الخلق الماضين، وهم من تقدمهم من الأمم، { قالوا إنما أنتَ من المسحَّرِين وما انت إلا بشرٌ مثلنا } ، أدخل الواو بين الجملتين هنا لدلالةٍ على أن كلا من التسحير والبشرية مناف للرسالة مبالغة في التكذيب، فتكذيبهم أقبح من ثمود حيث تركه فدل على معنى واحد وهو كونه مسحوراً وقرره بكونه بشراً. ثم قالوا: { وإنْ نظنك } " إن ": مخففة، أي: وإنه، أي: الأمر والشأن لنظنك { لمن الكاذبين } فيما تدعيه من النبوة. ثم استعجلوا العذاب بقولهم: { فَأَسْقِطْ علينا كِسفاً من السماء } أي: قطعاً، جمع كِسْفة، وقرئ بالسكون. أي: جُزءاً منه، والمراد بالسماء: إما السحاب، أو: السماء المظلة، { إن كنت من الصادقين } في دعواك الرسالة، ولم يكن طلبهم ذلك إلا لتصميمهم على الجحود والتكذيب، وإلا لما أخطروه ببالهم فضلاً عن أن يطلبوه.