الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً }

قلت: كُسرت إنَّ لأجل اللام في الخبر. والجملة بعد إلا: صفة لمحذوف، أي: وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلا آكلين وماشين، وإنما حذف اكتفاء بالجار والمجرور، يعني من المرسلين، وهو كقوله تعالى:وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات: 164]، أي: وما منا أحد. وقيل: هي حال، والتقدير: إلا وأنهم ليأكلون. يقول الحق جل جلاله: في الجواب المشركين عن قولهم:مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى ٱلأَسْوَاقِ } [الفرقان: 7] تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم: { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا } وَصِفَتُهُمْ { إِنهم لَيأْكُلون } بشر يأكلون { الطعامَ } ، مفتقرون إليه في قيام بنيتهم، { ويمشون في الاسواق } في طلب حوائجهم، فليس ببدع أن تكون أنت كذلك، { وجعلنا بعضهم لبعض فتنةً } أي: محنة، وهو التعليل لما قبله، أي: إنما جعلت الرسل مفتقرين للمادة، وفقراء من المال، يمشون في الاسواق لطلب المعاش ابتلاء، وفتنة، واختباراً لمن تبعهم، من غير طمع، ولم يعرض عنهم لأجل فقرهم، فقد جعلت بعضكم لبعض فتنة. قال ابن عباس: أي: جعلت بعضكم بلاءً لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم، وترون من خلافهم، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيكم عليه الدنيا، ولو شئتُ أن أجعل الدنيا مع رسلي، فلا يخالَفون، لفعلت، ولكن قدرت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم. هـ. فالحكمة في فقر الرسل من المال: تحقيق الإخلاص لمن تبعهم، وإظهار المزية لهم حيث تبعوهم بلا حرف. قال النسفي: أو جعلناك فتنة لهم لأنك لو كنت صاحب كنوز وجنات لكانت طاعتهم لأجل الدنيا، أو ممزوجة بالدنيا، فإنما بعثناك فقيراً لتكون طاعة من يطعيك خالصة لنا. هـ. قال في الحاشية: وقد قيل: إن الدنيا دار بلاء وامتحان، فأراد تعالى أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض، على العموم في جميع الناس: مؤمن وكافر، بمعنى: أن كل واحد مُخْتَبَرٌ بصاحبه، فالغنى ممتحن بالفقير، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه. والفقير ممتحن بالغنى، عليه ألا يحسده، ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق الذي عليه، وتوجه إليه من ذلك لأن الدار دار تكليف بموجبات الصبر، وقد جعل تعالى إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين، واختباراً لهم. ولمّا صبروا نزل فيهم:إِنِّي جَزَيْتُهُمُ ٱلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوۤاْ } [المؤمنون: 111]. والحاصل: أن الله تعالى دبَّر خلقه، وخص كلاَّ بما شاء، من غِنى أو فقر، أو علم أو جهل، أو نبوة أو غيرها. وكذا سائر الخصوصيات ليظهر من يسلّم له حُكمه وقسمته، ومن ينازعه في ذلك، ومن يؤدي حق ما توجه عليه من ذلك فيكون شاكراً صابراً، ومن لا، وهو أعلم بحكمته في ذلك، ولذلك قال: { وكان ربك بصيراً }.

السابقالتالي
2