الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ تَبَارَكَ ٱلَّذِيۤ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذٰلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً } * { بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيراً } * { إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } * { وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } * { لاَّ تَدْعُواْ ٱلْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً } * { قُلْ أَذٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ ٱلْخُلْدِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً } * { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً }

قلت: جنات: بدل من خيراً، و يجعل، من جزمه عطفه على محل جواب الشرط، ومن رفعه فعلى الاستئناف، أي: وهو يجعل لك قصوراً، ويجوز عطفه على الجواب لأن الشرط إذا كان ماضياً جاز في الجواب الرفع والجزم، كما هو مقرر في محله. يقول الحق جل جلاله: { تبارك } أي: تكاثر وتزايد خيره { الذي إن شاء جَعَلَ لك } في الدنيا { خيراً } لك { من ذلك } الذي اقترحوه من أن يكون لك جنة تأكل منها بأن يجعل لك مثل ما وعدك في الجنة، { جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ } ، فإنه خير من جنة واحدة من غير أنهار، كما اقترحوا، { ويجعل لك قصوراً } وغرفاً في الدنيا، كقصور الآخرة، لكن لم يشأ ذلك لأن الدنيا لا تسع ما يعطيه لخواص أحبابه في الآخرة لأنها ضيقة الزمان والمكان. وعدم التعرض لجواب الاقتراحين الأولين، وهو إنزال الملك وإلقاء الكنز لظهور بطلانهما ومنافاتهما للحكمة التشريعية، وإنما الذي له وجه في الجملة وهو الاقتراح الأخير فإنه غير مناف للحكمة بالكلية، فإن بعض الأنبياء - عليهم السلام - قد أُتوا مع النبوة مُلكاً عظيماً، لكنه نادر. ثم أضرب عن توبيخهم بحكاية جناياتهم السابقة، وانتقل إلى توبيخهم بحكاية جناية أخرى، فقال: { بل كذَّبوا بالساعة } أي: بل أتوا بأعجب من ذلك كله، وهو تكذيبهم بالساعة. ويحتمل أن يكون متصلاً بما قبله، كأنه قال: بل كذبوا بالساعة، وكيف يلتفتون إلى هذا الجواب، وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة، وهم لا يؤمنون بها؟ ثم تخلص إلى وبال من كذَّب بها فقال: { وأعتدنا لمن كَذَّبَ بالساعة سعيراً } أي: وهيأنا للمكذبين بها ناراً شديدة الإسعار، أي: الاشتعال. ووضع الموصول موضع ضمير " هم " ، أو لكل من كذب بها كائناً من كان، ويدخلون هم في زمرتهم دخولاً أولياً. ووضع الساعة موضع ضميرها للمبالغة في التشنيع. { إذا رَأَتْهُم } أي: النار، أي: قابلتهم { من مكان بعيد } بأن كانت منهم بمرأى للناظرين في البُعد، كقوله صلى الله عليه وسلم في شأن المؤمن والكافر: " لا تترآءى نَاراهُما " ، أي: لا يتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى. { سمعوا لها تغيُّظاً وزفيراً } أي: سمعوا صوت غليانها. شُبه ذلك بصوت المتغيظ والزفير، وهو صوت من جوفه. ولا يبعد أن يخلق الله فيها الإدراك فتتغيظ وتزفر. وقيل: إن ذلك من زبانيتها، نُسب إليها، وهو بعيد. { وإذا أُلْقُوا منها } من النار { مكاناً ضَيِّقاً } أي: في مكان ضيق لأن الكرب يعظم مع الضيق، كما أن الروح يعظم مع السعة، وهو السر في وصف الجنة بأن عرضها السموات والأرض. وعن ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهما -: تضيق جهنم عليهم، كما يضيق الزجُّ على الرمح.

السابقالتالي
2 3