الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } * { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّـلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }

قلت: ليستخلفنهم: جواب لقسم مضمر، أو تنزيل وعْده تعالى منزلة القسم، و كما: الكاف: محلها النصب على المصدر التشبيهي، أي: استخلافاً كائناً كاستخلافه مَنْ قَبْلَهُمْ. و ما: مصدرية. و يعبدونني: حال من الموصول الأول، مقيدة للوعد بالثبات على التوحيد، أو استئنافٌ ببيان مقتضى الاستخلاف، و لا يشركون: حال من واو يعبدونني. يقول الحق جل جلاله: { وعد الله الذين آمنوا منكم } أي: كل من اتصف بالإيمان بعد الكفر من أي طائفة كان، وفي أي وقت وجد، لا من آمن من المنافقين فقط، ولا من آمن بعد نزول الآية الكريمة، بحسب ظهور الوعد الكريم. و من: للبيان. وقيل: للتبعيض، ويراد المهاجرون فقط. { وعملوا } مع الإيمان الأعمال { الصالحات } ، وتوسيط المجرور بين المَعْطُوفَيْنِ لإظهار أصالة الإيمان وعراقته في استتباع الآثار والأحكام، والإيذان بكونه أول ما يطلب منهم، وأهم ما يجب عليهم. وأما تأخيره في قوله:وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً } [الفتح: 29] فإن الضمير للذين آمنوا معه صلى الله عليه وسلم فلا ريب أنهم جامعون بين الإيمان والأعمال الصالحة، مثابون عليها، فلا بد من ورود بيانهم بعد نعوتهم الجليلة بكمالها. ثم ذكر الموعود به، فقال: { لَيستخلفنَّهم في الأرض } أي: لَيجعلهم خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في مماليكهم، والمراد بالأرض: أرض الكفار كلها، لقوله عليه الصلاة والسلام: " ليدخلن هذا الدين ما دخل الليل والنهار " ، { كما استخلف الذين مِن قبلهم } كبني إسرائيل، استخلفهم الله في مصر والشام، بعد إهلاك فرعون والجبابرة، ومَنْ قَبْلَهم مِن الأمم المؤمنة التي استخلفهم الله في أرض من أهلكه الله بكفره. كما قال تعالى:فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ ٱلظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ } [إبراهيم: 13]. { وليُمَكِّنَنَّ لهم دينَهم }: عطف على { ليستخلفنهم } ، داخل معه في سلك الجواب، وتأخيره عنه مع كونه أصل الرغائب الموعودة وأعظمها لأن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل، فَتصْدير المواعد بها في الاستمالة أدخل، والمعنى: ليجعل دينهم ثابتاً متمكناً مقرراً لا يتبدل ولا يتغير، ولا تنسخ أحكامه إلى يوم القيامة. ثم وصف بقوله: { الذي ارتضى لهم } ، وهو دين الإسلام، وصفه بالارتضاء تأليفاً ومزيدَ ترغيب فيه وفضْلَ تثبيت عليه. { وليُبدِّلنهُمْ } بالتشديد والتخفيف من الإبدال، { من بعد خوفهم } من الأعداء { أمناً }. نزلتْ حيث كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة عشر سنين، أو أكثر، خائفين، ولَمَّا هاجروا كانوا بالمدينة يُصْبِحُون في السلاح ويُمْسُون فيه، حتى قال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع السلاح، فلما نزلت، قال عليه الصلاة والسلام: " لا تصبرون إلا يسيراً حتى يَجْلِسَ الرجل منكم في الملأِ العظيم، مُحْتبياً، ليس معه حديدة " ، فأنجز الله وعده، فأمِنُوا، وأظهرهم على جزيرة العرب، وفتح لهم بلاد المشرق والمغرب، ومزقوا ملك الأكاسرة، وملكوا خزائنهم، واستولوا على الدنيا بحذافيرها.

السابقالتالي
2