الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

يقول الحق جل جلاله: { والله خلقَ كلَّ دابةٍ } أي: خلق كل حيوان يدب على وجه الأرض { من ماء } من نوع من الماء مختص بتلك الدابة، وهو جزء مادته عند الأطباء، أو: من ماء مخصوص، وهو النطفة، ثم خالف بين المخلوقات من تلك النطفة، فمنها أناسي، ومنها بهائم، ومنها هوام وسباع، وهو كقوله:يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ } [الرعد: 4] وهذا دليل على أن لها خالقاً مدبراً، وإلاَّ لم تختلف لاتفاق الأصل، وإنما عَرَّفَ الماء في قوله:وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَيٍّ } [الأنبياء:30] ونكّره هنا لأن المقصود ثمَّة أن أجناس الحيوان مخلوقة من جنس الماء، وأنه هو الأصل، وإن تخللت بينه وبينها وسائط، وأما هنا فالمراد نوع منه. قالوا: إن أول ما خلق الله الماء، فخلق منه النار والريح والطين، فخلق من النار الجن، ومن الريح الملائكة، ومن الطين آدم ودواب الأرض. قاله النسفي. وعلى الثاني: تكون الآية أغلبية لأن مِن الحيواناتِ من يتولد من غير نطفة، كالدود والبَعُوضِ وغيرهما. ثم فصّل أحوالهم بقوله: { فمنهم من يمشي على بطنه } كالحية والحوت، وتسمية حركتها مشياً، مع كونها زحفاً، استعارة، كما يقال في الشيء المستمر: قد مشى هذا الأمر على هذا النمط، او على طريق المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين. { ومنهم من يمشي على رِجْلين } كالإنسان والطير، { ومنهم من يمشي على أربع } كالبهائم والوحش. وعدم التعرض لما يمشي على أكثر من أربع كالعناكب ونحوها من الحشرات لعدم الاعتداد بها، لقلتها. وتذكير الضمير في منهم لتغليب العقلاء، وكذلك التعبير بكلمة مَن. وقدَّم ما هو أغرق في القدرة، وهو الماشي بغير آلة، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع. { يَخْلُقُ الله ما يشاء } مما ذكر ومما لم يذكر، بَسيطاً أو مركباً، على ما يشاء من الصور والأعضاء والهيئات والطبائع والقوى والأفاعيل، مع اتحاد العنصر { إنَّ الله على كل شيء قدير } فيفعل ما يشاء كما يشاء. وإظهار الاسم الجليل في الموضعين في موضع الإضمار لتفخيم شأن الخلق المذكور، والإيذان بأنه من أحكام الألوهية. والله تعالى أعلم. الإشارة: أظهر الحق تعالى الأشياء من الماء، وأظهر الماء من نور القبضة، وأظهر القبضة من بحر سر الذات. أو تقول: أظهر الماء من نور الملكوت، وأبرز نور الملكوت من بحر الجبروت، وبحر الجبروت هو بحر أسرار الذات الأزلية، فالكل منه وإليه، ولا شيء معه، فتنوعت أنوار التجليات، وتعددت أسماؤها بتعدد فروعها، والمتجلي واحد، كما قال صاحب العينية:
تَجلَّى حَبِيبي في مَرَائِي جَمَالِهِ فَفِي كُلِّ مَرْئِيّ لِلْحَبِيبِ طَلاَئِعُ فَلَمَّا تَبَدَّى حُسْنُه مُتَنَوِّعاً تَسَمَّى بِأَسْمَاءٍ فَهُنَ مَطَالِعُ   
ولا يفهم هذا إلا من هداه الله لمعرفته، كما قال: { لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَٱللَّهُ... }