الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } * { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ }

قلت: " كسراب ": خبر الثاني، وهو: ما يُرى في الفلوات من لمعان الشمس وقت الظهيرة، يسرب على وجه الأرض، فَيُظَنُّ أنه ماء يجري. وبقيعة: متعلق بمحذوف، صفة لسراب، أي: كائن بأرض قيعة، أي: منبسطة، و سحاب ظلمات: مَنْ جَرَّها: فبالإضافة، ومن رفعها: فخبر، أي: هي ظلمات. يقول الحق جل جلاله: في بيان أعمال الكفرة وظلمة قلوبهم، بعد بيان حَالِ المؤمنين وأنوار قلوبهم: { والذين كفروا أعمالُهم } التي هي من أبواب البر، كصلة الرحم، وفك العُنَاةِ، وسقاية الحاج، وعمارة البيت، وإغاثة الملهوف، وَقِرَى الأضياف، ونحوها، مما لَوْ قارنه الإيمان لاستوجب الثواب، مثاله: { كسراب } كفضاء بقيعَةٍ بأرض منبسطة، { يَحْسَبُهُ الظمآنُ ماءً حتى إذا جاءه لم يجِدْه شيئاً } أي: لم يجده كما ظنه ورجاه، بل خاب مطمعه ومسعاه، { ووجدَ الله عنده } أي: وجد جزاء الله، أو حُكمه، عند عمله، أو عند جزائه، { فوفَّاه حسابَه } أي: أعطاه جزاءه كله وافياً، وإنما وحّد، بعد تقديم الجمع، حملاً على كل واحد من الكفار. { والله سريعُ الحساب } يحاسب العباد في ساعة لأنه لا يحتاج إلى عد وعقد، ولا يشغله حساب عن حساب، أو قَرِيبٌ حسابُه لأنَّ كل آتٍ قريبٌ. شبه ما يعمله الكفرة من البر، الذي يعتقد أنه ينفعه يوم القيامة وينجيه من عذاب الله، ثم يخيب في العاقبة أَملُهُ، ويلقى خلاف ما قدّر، بسراب يراه الكافر بالساهرة، وقد غلبه عطش يوم القيامة، فيحسبه ماء، فيأتيه، فلا يجد ما رجاه، ويجد زبانية الله، فيأخذونه إلى جهنم، فيسقونه الحميم والغساق. قيل: هم الذين قال الله فيهم:عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } [الغاشية: 3]،ويَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [الكهف: 104]. قيل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، كان ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، والتمس الدين، فلما جاء الإسلام كفر. هـ. ثم ضرب مثلاً لأعمالهم في الدنيا، فقال: { أوْ كظلماتٍ } ، " أو ": للتنويع، { في بحرٍ لجيِّ } عميق كثير الماء، منسوب إلى اللج، وهو معظم ماء البحر، { يغشاه } أي: يغشى البحر، أو مَن فيه، أي: يعلوه ويغطيه بالكلية، { موجٌ } هو ما ارتفع من الماء، { من فوقه موجٌ } أي: من فوق الموج موج آخر، { من فوقه سَحَابٌ } من فوق الموج الأعلى سحاب، { ظلماتٌ } أي: هذه ظلمات ظلمة السحاب، وظلمة الأمواج وظلمة البحر، { بعضُها فوق بعض } ظلمة الموج على ظلمة البحر، وظلمة الموج على ظلمة الموج الأسفل، وظلمة السحاب على الموج، وهذا أعظمُ للخوف وأقربُ للعطب، لأنه يغطي النجوم التي يهتدي بها ويشتد معه الريح والمطر، وذلك يؤكد التلف، { إذا أخرج يده } أي: الواقع فيه، أو مَن ابْتُلِيَ بها، { لم يكد يراها } مبالغة في " لم يرها " ، أي: لم يقرب أن يراها، فضلاً عن أن يراها.

السابقالتالي
2