الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْغَافِلاَتِ ٱلْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } * { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ٱلْمُبِينُ }

قلت: " يوم تشهد ": ظرف للاستقرار، في " لهم " ، أو: معمول لا ذكر. يقول الحق جل جلاله: { إن الذين يرمون } يقذفون { المحصَنَاتِ } العفائف مِمَا رُمين به من الفاحشة، { الغافلاتِ } عنها على الإطلاق، بحيث لم يخطر ببالهن شيء منها ولا من مقدماتها، أو السليمات الصدور، النقيات القلوب، اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر لأنهن لم يُجربن الأمور، { المؤمنات } المتصفات بالإيمان بكل ما يجب الإيمان به، إيماناً حقيقياً لا يُخالجه شيء مما يكدره. عن ابن عباس: هنّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: جميع المؤمنات إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقيل: أريدت عائشة وحدها، وإنما جمع لأن من قذف واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قذفهنّ. ثم ذكر الوعيد، فقال: { لُعِنُوا في الدنيا والآخرة } ، حيث يلعنهم اللاعنون من المؤمنين والملائكة أبداً، { ولهم } مع ذلك { عذابٌ عظيم } ، هائل لا يُقادَرُ قَدْرُهُ لعظم ما اقترفوه من الجناية، إن لم يتوبوا، فيعذبون. { يوم تشهدُ عليهم ألسنتُهم وأيديهم وأرجلُهم بما كانوا يعملون } أي: بما أَفكوا وبَهَتُوا { يومئذٍ يُوفّيهم الله دينَهُم } أي: يوم تشهد جوارحُهم بأعمالهم القبيحة يُوفيهم الله جزاءهم { الحقَّ } أي: الثابت الذي يحق أن يثبت لهم لا محالة، أو الذي هم أهله، والحق: صفة لدينهم، أو لله، ونصب على المدح. { ويَعْلَمُونَ } عند ذلك { أن الله هو الحقُّ } الثابت الواجب الوجود { المبين } الظاهر البين لارتفاع الشكوك، وحصول العلم الضروري لارتفاع الغطاء بظهور ما كان وعداً غيباً. ولم يُغَلِظِ الله تعالى في القرآن في شيء من المعاصي تَغْلِيظَهُ في إفك عائشة - رضي الله عنها - فأوجز في ذلك وأَشْبَعَ، وفَصَّل، وأَجَمَلَ، وأَكَّدَ، وكَرَّرَ، وما ذلك إلا لأمر عظيم. وعن ابن عباس رضي الله عنه: من أذنب ذنباً وتاب قُبلت توبته، إلا مَن خاض في أمر عائشة - رضي الله عنها، وهذا منه مبالغةً وتعظيم لأمر الإفك، وقد برّأ الله تعالى أربعة برّأ يوسف بشاهدٍ من أهلها، وموسى عليه السلام من قول اليهود فيه: أنه آدر، بالحجر الذي ذهب بثوبه، ومريم بنطق ولدها، وعائشة بهذه الآي العظام في كتابه المعجز، المتلوّ على وجود الدهر، بهذه المبالغات. فانظر: كم بينها وبين تبرئة أولئك؟‍! وما ذلك إلا لإظهار علوّ منزلة رسوله، والتنبيه على إنَافَةِ محله صلى الله عليه وسلم. وقد رام بعضُ النصارى الطَّعْنَ على المسلمين بقضية الإفك، فقال: كيف تبقى زوجة نبيكم، مع رجل أجنبي؟ فقال له من كان يناظره من العلماء: قد برأها من برأ أُمَّ نبيكم فبُهت الذي كفر. والله تعالى أعلم. الإشارة: قد مدح الله تعالى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أوصاف، هي من أكمل الأوصاف: العفة، والتغافل، وتحقيق الإيمان أما العفة: فهي حفظ القلب من دخول الهوى، والجوارح من معاصي المولى، وأما التغافل: فهو الغيبة عما سوى الله، والتغافل عن مساوئِ الناس.

السابقالتالي
2