يقول الحق جل جلاله: { قد أفلح المؤمنون } أي: فازوا بكل مطلوب، ونالوا كل مرغوب، فالفلاح: الفوز بالمرام والنجاة من المكاره والآلام، وقيل: البقاء في الخير على الأبد، وقد تقتضي ثبوت أمر متوقع، فهي هنا لإفادة ثبوت ما كان متوقع الثبوت من قبل، وكان المؤمنون يتوقعون مثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبوت الفلاح لهم، فخُوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه. والإيمان في اللغة: التصديق بالقلب، والمؤمن: المصدِّق لِما جاء به الشرع، مع الإذعان بالقلب، وإلا.. فكم من كافر صدّق بالحق ولم يذعن، تكبُّراً وعناداً، فكل من نطق بالشهادتين، مواطئاً لسانُه قلبَه فهو مؤمن شرعاً، قال عليه الصلاة والسلام: " لَمَّا خَلَقَ الله الجَنَّةَ، قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي، فَقَالَتْ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤمنُون - ثلاثاً - أنا حرامٌ على كلِّ بخيل مُرائي " لأنه بالرياء أبطل العبادات الدينية، وليس له أعمال صافية. ثم وصف أهل الإيمان بست صفات، فقال: { الذين هم في صلاتهم خاشعون }: خاضعون بالقلب ساكنون بالجوارح، وقيل: الخشوع في الصلاة: جمع الهمة، والإعراض عما سواها، وعلامته: ألا يجاوز بصرُه مصلاه، وألاّ يلتفت ولا يعبث. وعن أبي الدرداء: هو إخلاص المقال، وإعظام المقام، واليقين التام، وجمع الاهتمام. وأضيفت الصلاة إلى المصلين لانتفاع المصلِّي بها وحده وهي عُدَّته وذخيرته وأما المُصلَّى له فَغَني عنها. { والذين هم عن اللغو مُعرضون } ، اللغو: كل كلام ساقط، حقه أن يُلغَى، كالكذب والشتم ونحوهما. والحق إن اللغو: كل ما لا يَعني من الأقوال والأفعال، وصفهم بالحزم والاشتغال بما يعنيهم وما يقربهم إلى مولاهم في عامة أوقاتهم، كما ينبىء عنه التعبير بالاسم الدال على الثبوت والاستمرار، بعد وصفه لهم بالخشوع ليجمع لهم بين الفعل والترك، الشاقَّين على النفس، اللذَيْن هما قاعدتا التكليف. { والذين هم للزكاة فاعلون }: مؤدون، والمراد بالزكاة: المصدر، الذي هو الإخراج، لا المخرج. ويجوز أن يراد به العين، وهو الشيء المُخْرج، على حذف مضاف، أي: لأداء الزكاة فاعلون. وصفهم بذلك، بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة للدلالة على أنهم بلغوا الغاية القصوى من القيام بالطاعة البدنية والمالية، والتجنب عن النقائص، وتوسيط الإعراض عن اللغو بينهما لكمال ملابسته بالخشوع في الصلاة لأن من لزم الصمت والاشتغال بما يعني عَظُم خشوعُه وأُنسه بالله. { والذين هم لفروجهم حافظون }: ممسكون لها، ويشمل فرجَ الرجل والمرأة، { إلا على أزواجهم } ، الظاهر أن " على " بمعنى " عن " أي: إلا عن أزواجهم، فلا يجب حفظها عنهن، ويمكن أن تبقى على بابها، تقول العرب: احفظ عليّ عنان فرسي، أي: أمسكه، ويجوز أن يكون ما بعد الإستثناء حالاً، أي: إلا والين على أزواجهم، من قولك: كان زياد على البصرة، أي: والياً عليها، والمعنى: أنهم لفروجهم حافظون في كافة الأحوال، إلا في حالة تزوجهم أو تسريهم.