الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ }

يقول الحق جل جلاله: { وجعلنا ابنَ مريَم وأمه آيةً } دالة على كمال قدرتنا بولادته منها من غير مسيس بشر، ووحَّدها لأن الأعجوبة فيهما واحدة. أو المراد: وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية، فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها، أي: وجعلنا ابن مريم وحده، من غير أن يكون له أب، آية، وأمه، من حيث أنها وَلدت من غير ذَكَر، آية، وتقديمه عليه السلام لأصالته فيما ذَكَر من كونه آية كما أن تقديم أمه في قوله تعالى:وَجَعَلْنَاهَا وَٱبْنَهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 91]، لأصالتها فيما نسب إليها من الإحصان والنفخ. { وآويناهما } أي: جعلنا مأويهما ومنزلهما { إلى ربوةٍ } أي: أرض مرتفعة، وهو بيت المقدس فإنها كبد الأرض، وأقرب الأرض إلى السماء، بمعنى أنه يزيد علوها على علو الأرض، فينتقصُ بُعدها عن السماء عن بُعد غيرها منها بثمانية عشر ميلاً، كما جاء، ولعل ذلك سر كونها أرض الحشر، وكون الإسراء وقع منها. قاله المحشي، وقيل: دمشق، وقيل: فلسطين، والرملة. { ذات قرارٍ } مستقر من الأرض، مستوية منبسطة، سهلة، أو ذات ثمار، يستقر لأجل ثمارها، ساكنوها فيها، { ومَعِين } أي: ماء معين، ظاهر، جارٍ، فقيل: من معن، إذا جرى، أو مدرك بالعين لظهوره من عانه إذا أدركه بعينه أو من الماعون وهو النفع لأنه نفاع لظهوره وجريه. والله تعالى أعلم. الإشارة: كان عيسى عليه السلام منقطعاً عن هذا العالم، متبتلاً زاهداً، لم يتخذ في هذه الدنيا قراراً، ولم يبن فيها مسكناً ولا داراً، فكان آية للعباد والزهاد من الرجال. كما أن أمه كانت آية للنساء العابدات، في التبتل والانقطاع، فآواهما إلى ربوة التقريب والاصطفاء، ذات قرار وتمكين ومصافاة ووفاء، وجعل، جل جلاله، أولياءه على قدم أنبيائه، فمنهم على قدم نوح عليه السلام في القوة ونفوذ الهمة، مهما دعا على أحد هلك. ومنهم على قدم إبراهيم عليه السلام في الشفقة والرحمة وعلو الهمة، وتحقيق التوحيد، وإمام أهل التفريد، ومنهم على قدم موسى عليه السلام في المناجاة والمكالمة والقوة والعزم، ومنهم على قدم عيسى عليه السلام في الزهد والانقطاع، ومنهم على قدم نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام - وهو الجامع لما افترق في غيره، وهو قطب الدائرة، نفعنا الله بهم جميعاً. ولما كان حل الانبياء بالشام التي هي ذات قرار وإنعام أمرهم بالأكل من ملك النعم