الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } * { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } * { ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } * { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ } * { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ }

قلت: " خلق ": إن كان بمعنى اخترع وأحدث تعدى إلى واحد، وإن كان بمعنى صَيَّر تعدى إلى مفعولين، ومنه { ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً } ، ومن بعده. يقول الحق جل جلاله: { ولقد خلقنا الإنسان } جنس الإنسان، أو آدم، { من سُلالةٍ } " من ": للابتداء، والسلالة: الخُلاصة لأنها تسل من بين الكدر، وهو ما سُلَّ من الشيء واستخرج منه، فإن فُعالة اسم لما يحصل من الفعل، فتارة يكون مقصوداً منه، كالخُلاصة، وتارة غير مقصود، كالقُلامة والكناسة، والسلالة من قبيل الأول فإنها مقصودة بالسَّل، وقيل: إنما سمي التراب الذي خُلق منه آدم سلالة، لأنه سُلّ من كل تربة. وقوله: من طين، بيان، متعلقة بمحذوف، صفة للسلالة، أي: خلقناه من سلالة كائنة من طين. { ثم جعلناه } أي: الجنس، باعتبار أفراده المتغايرة لآدم عليه السلام، وجعلنا نسله، على حذف مضاف، إن أُريد بالإنسان آدم، فيكون كقوله تعالى:وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [السجدة: 8،7] أي: جعلنا نسله { نطفة }: ماءً قليلاً { في قرار مكين } أي: في مستقر - وهو الرحم - مكين: حصين، أو متمكن فيه، وَصف الرحم بصفة ما استقر فيه، مثل طريق سائر، أي: مسير فيه. { ثم خلقنا النطفة علقة } أي: دماً جامداً، بأن جعلنا النطفة البيضاء علقة حمراء، { فخلقنا العلقة مُضغة } أي: قطعة لحم لا استبانةَ ولا تمايز فيها { فخلقنا المضغة } أي: غالبها ومعظمها، أو كلها { عظاماً } ، بأن صلبناها، وجعلناها عَموداً على هيئةٍ وأوضاع مخصوصة، تقتضيها الحكمة، { فكسونا العظام } المعهودة { لحما } بأن أنبتنا عليها اللحم، فصار لها كاللباس، أو كسونا كل عظم من تلك العظام ما يليق به من اللحم، على مقدار لائق به، وهيئة مناسبة. وقرئ بالإفراد فيهما، اكتفاء بالجنس، وبتوحيد الأول فقط، وبتوحيد الثاني فحسب. { ثم أنشأناه خلقاً آخر } أي: خلقاً مبايناً للخلق الأول، حيث جعله حيواناً، وكان جماداً، وناطقاً وسميعاً وبصيراً، وكان بضد هذه الصفات، ولذلك قال الفقهاء: من غصب بيضة فأفرخت عنده ضمِّنَ البيضة، ولم يَرُدّ الفرخ لأنه خلق آخر سوى البيضة. { فتبارك الله أحسن الخالقين } أي: فتعالى أمره في قدرته الباهرة، وعلمه الشامل. والالتفات إلى الإسم الجليل لتربية المهابة، وإدخال الروعة، والإشعار بأنَّ ما ذكر من الأفاعيل العجيبة من أحكام الألوهية، وللإيذان بأنَّ من حق كل من سمع ما فصَّل من آثار قدرته تعالى أو لاحظه، أن يسارع إلى التكلم به، إجلالاً وإعظاماً لشؤونه تعالى، وقوله: أحسن الخالقين: بدل اسم الجلالة، أو نعت، على أنَّ الإضافة محضة ليطابقه في التعريف، أو خبر، أي: هو أحسن الخالقين خلقاً، أي: أحسن المقدرين تقديراً، فحذف التمييز لدلالة الخالقين عليه.

السابقالتالي
2