الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ } * { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } * { قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } * { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّاحِمِينَ } * { فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } * { إِنِّي جَزَيْتُهُمُ ٱلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوۤاْ أَنَّهُمْ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ } * { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ } * { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ ٱلْعَآدِّينَ } * { قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }

يقول الحق جل جلاله: { قالوا } أي: أهل النار { ربنا غلبت علينا } أي: ملكتنا { شِقْوَتُنا }: شقاوتنا التي اقترفناها بسوء اختيارنا، كما يُنبئ عنه إضافتها إلى أنفسهم، أي: شقينا بأعمالنا السيئة التي عملناها، ولا يصح حمله على الشقاوة الأزلية لأنهم غير مكلفين بصرفها عنهم إذ ليس في اختيارهم. { وكنا قوماً ضالِّين } عن الحق، ولذلك فعلنا ما فعلنا من التكذيب، وهذا، كما ترى، اعتراف منهم بأن ما أصابهم إنما أصابهم بسوء صنعهم، وأمَّا ما قيل: من أنه اعتذار منهم بغلبة ما كتب عليهم من الشقاوة الأزلية، فلا يصح لأن الله تعالى ما كتب عليهم الشقاء حتى علم أنهم يفعلونه باختيارهم، لا بما كتب عليهم. ثم قالوا: { ربنا أَخْرِجْنَا منها فَإِن عُدْنا فإِنا ظالمون } أي: أخرجنا من النار، وردنا إلى الدنيا، فإن عدنا بعد ذلك إلى ما كنا عليه من الكفر والمعاصي، فإنا متجاوزون الحد في الظلم، ولو كان اعتقادهم أنهم مجبورون على ما صدر عنهم لما سألوا الرجعة إلى الدنيا، ولما وَعَدوا بالطاعة والإيمان. قال القرطبي: طلبوا الرجعة إلى الدنيا كما طلبوها عند الموت. ثم يجيبهم الحق تعالى، بعد ألف سنة، بقوله: { قال اخسؤوا فيها } أي: اسكتوا في النار سكوت ذل وهوان، وانزجروا انزجار الكلاب، يقال: خسأت الكلب، إذا زجرته، فخسأ، أي: انزجر. { ولا تُكَلِّمونِ } باستدعاء الإخراج من النار والرجوع إلى الدنيا، أو في رفع العذاب عنكم فإنه لا يرفع ولا يخفف، روي أنه آخر كلام يتكلمون به، ثم لا كلام بعد ذلك إلاَّ الشهيق والزفير، ويصير لهم عُواء كعُواء الكلاب لا يفهمون ولا يُفهمون. قيل: ويرده الخطابات الآتية، وقد يجاب: بأن قبل هذه الكلمة. ثم علل استحقاقهم لذلك العذاب بقوله: { إنه } أي: الأمر والشأن { كان فريق من عبادي } وهم المؤمنون، او الصحابة، أو أهل الصفة - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - { يقولون } في الدنيا: { ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا } أي: هزواً، وهو مصدر سخر، زيدت فيه ياء النسب للمبالغة، وفيه الضم والكسر. وقال الكوفيون: المكسور بمعنى الهزء، والمضموم من السخرة، بمعنى الانقياد للخدمة، ولذلك اتفق عليه في الزخرف، أي: اتخذتموهم مهزواً بهم، وتشاغلتم بهم { حتى أَنْسَوْكم ذكري } ، من فرط اشتغالكم بالاستهزاء بهم، ولم تخافوني في أوليائي، { وكنتم منهم تضحكون } ، وذلك غاية الاستهزاء. قال تعالى: { إني جَزَيْتُهُم اليوم } جزاء على صبرهم على أذاكم، { أنهم همُ الفائزون } بكل مطلوب دونكم، فأنهم: مفعول " جزيتهم " لأنه يتعدى إلى مفعولين، وقرأ حمزة بالكسر على الإستئناف تعليلاً للجزاء، وبياناً أنه في غاية الحسن، { قال كم لبثتم } ، القائل هو الله تعالى، أو الملك، وقرأ المكي وحمزة: " قل " التي بلفظ الأمر للملك، يسألهم: كم لبثوا، { في الأرض } التي دعوا الله أن يردهم إليها، { عدد سنين } ، وهو تمييز، أي: كم لبثتم في الأرض عدد السنين، { قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم } ، استقصار لمدة لبثهم فيها بالنسبة إلى خلودهم، ولِمَا هم فيه من عذابها لأن الممتحن يستطيل أيام محنته، ويستقصر ما مر عليه من أيام الدعة، { فاسْئَل العادِين } أي: المتمكنين من العد فإنا بما دُهمنا من العذاب بمعزل من العد، أو الملائكة العادين لأعمار العباد وأعمالهم.

السابقالتالي
2