الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ ذٰلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } * { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱللَّيْلِ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } * { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ ٱلْبَاطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ }

قلت: { ذلك }: خبر، أي: الأمر ذلك. و { مَن عاقب }: شرط سدّ مسد جوابه، أي: من عاقب بمثل ما عُوقب به ينصره الله. يقول الحقّ جلّ جلاله: { ذلك } أي: الأمر ذلك، كما أخبرتك في بيان الفريقين، ثم استأنف فقال: { ومن عاقب بمثل ما عُوقِبَ به } أي: لم يزد في القصاص على ما فُعل به، وسمى الابتداء عقابًا للمشاكلة ولملابسته له، من حيث إنه سبب له وهو مسبب عنه. { ثم بُغِيَ عليه لينصُرَنَّه اللهُ } أي: من جازى بمثل ما فُعل به من الظلم، ثم ظُلم، بعد ذلك، وبُغي عليه بعد ذلك، فحق على الله أن ينصره { إِنَّ الله لعفوٌّ } يمحو آثار الذنوب، { غفورٌ } يستر أنواع العيوب. ومناسبة الوصفين لما قبلهما: أن المعاقب مأمور بالعفو من عند الله، بقولهفَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ } [الشورى: 40]،وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [الشورى: 43]، فحين لم يفعل ذلك، وانتصر لنفسه، فكأنه مُذنب، فمعنى العفو في حقه أنه لا يلزمه على ترك الفضل شيء، وأنه ضامن لنصره في الكرة الثانية، إذا ترك العفو وانتقم من الباغي عليه، وعَرَّضَ، مع ذلك، بما كان أولى به من العفو بذكر هاتين الصفتين. ثم ذكر دلائل قدرته على النصر وغيره بقوله: { ذلك بأن الله يُولج الليلَ في النهار ويُولجُ النهارَ في الليل وأنَّ الله سميع بصيرٌ } أي: ذلك النصر للمظلوم بسبب أنه قادر على ما يشاء. ومن آيات قدرته أنه { يُولجُ الليلَ في النهار ويُولجُ النهارَ في الليل } أي: يُدخل أحدهما في الآخر، فيدخل الليلَ في النهارِ إذا طال النهار، ويُدخل النهارَ في الليل إذا طال الليلُ، فيزيد في أحدهما ما ينقص من الآخر. أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما، بإدخال أحدهما على الآخر، فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر، والبغي والإنصاف. { وأن الله سميع } لما يقولون، لا يشغله سمع عن سمع، وإن اختلفت في النهار الأصوات بفُنون اللغات، { بصير } بما يفعلون، فلا يستتر عنه شيء بشيء في الليالي، وإن توالت الظلمات. { ذلك بأن الله هو الحقُّ } الواجب لذاته، الثابت في نفسه، الواحد في صفاته وأفعاله، فإن وجوب وجوده ووحدته يقتضيان كونه مُبديًا لكل ما يوجد من الموجودات، عالمًا بكل المعلومات. وإذا ثبت أنه الحق فدينُه حق، وعبادته حق، { وأن ما تدعون من دونه } إلهًا { هو الباطل } ي: المعدوم في حد ذاته. أو الباطل ألوهيته، { وأن الله هو العليُّ الكبيرُ } أي: المتعالي عن مدارك العقول، وعن سمات الحدوث، أو المرتفع على كل شيء بقهريته، أو المتعالي عن الأنداد والأشباه، الكبير شأنًا وعظمةً وكبرياء إذ كل شيء يصغر دون كبريائه، فلا شيء أعلى منه شأنًا وأكبر سلطانًا لأن له الوجود المطلق.

السابقالتالي
2