الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ } * { وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ } * { وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَىٰ فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } * { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ }

يقول الحقّ جلّ جلاله: { وإن يُكذبوك } يا مُحمد، أي: أهل مكة، فلا تحزن فلست بأول من كُذب، { فقد كَذَّبت قبلهم } أي: قبل قومك { قومُ نوح } نوحًا، { وعادٌ } هودًا، { وثمودُ } صالحًا، { وقومُ إِبراهيمَ } إبراهيم، { وقومُ لوطٍ } لوطًا، { وأصحابُ مدينَ } شعيبًا، { وكُذِّب موسى } كذَّبه فرعونُ والقبط. ولم يقل: وقوم موسى لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل، وإنما كذبه القبطُ. أو: كأنه لمَّا ذكر تكذيب كلُّ قوم رسولهم، قال: وكُذِّب موسى، مع وضوح آياته وظهور معجزاته، فما ظنك بغيره؟ { فأمليتُ للكافرين }: أمهلتهم وأخرت عقوبتهم، { ثم أخذتُهم }: عَاقَبْتُهم على كفرهم، أي: أخذت كل فريق من فِرَقِ المكذبين، بعد انقضاء مدة إملائه وإمهاله، { فكيف كان نكير } أي: إنكاري وتغييري حيث أبدلتهم بالنعم نقمًا، وبالحياة هلاكًا، وبالعمارة خرابًا، فكان ذلك في غاية ما يكون من الهول والفظاعة. { فكأيِّن من قريةٍ أهلكناها } أي: كثيرًا من القرى أهلكناها وخربناها بإهلاك أهلها، { وهي ظالمةٌ } أي: والحال أنها ظالمة بالكفر والمعاصي، { فهي خاوية }: ساقطة على { عروشها } ، من خوى النجم: سقط. والمعنى أنها ساقطة على سقوفها، أي: خربت سقوفُها على الأرض، ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف. ويجوز أن يكون { على عروشها }: خبرًا بعد خبر، أي: فهي خالية من السكان، وهي على عروشها، أي: قائمة مشرفة على السقوف الساقطة. { وبئرٍ مُعَطَّلَةٍ } أي: وكم من بئر متروكة مهملة في البوادي والحواضر، لا يستسقى منها لهلاك أهلها مع توفير مائها، { وقصْرٍ مَشيدٍ }: مرفوع البنيان، من شاد البنيان: إذا رفعه، أو مجصّص بالشيد، أي: الجص، أي: مبنيًا بالشيد والجندل. وقال الضحاك: كانت هذه البئر المعطلة بحضرموت، في بلدة يقال لها: حاضوراء، وذلك أن أربعة آلاف ممن آمن بصالح، ونجوا من العذاب، أتوا حضرموت، ومعهم صالح، فلما حضروا ذلك الموضع، مات صالح، فسُمي حضرموت لأن صالحًا لما حضره مات، فبنوا حاضوراء، وقعدوا على هذه البئر، فأقاموا دهرًا طويلاً، وتناسلوا حتى كثروا، ثم عبدوا الأصنام وكفروا، فأرسل الله إليهم نبيًا يقال له: " حنظلة بن صفوان " ، فقتلوه فأهلكهم الله، وعطلت بئرهم وخربت قصورهم. هـ. وحاصل المعنى: وكم قرية أهلكناها، وكم بئر عطلناها عن سقاتها، وقصر مشيد أخليناه عن ساكنه، أي: أهلكنا البادية والحاضرة جميعًا، فخلت القصور عن أربابها، والآبار عن روادها. فالأظهر أن البئر والقصر على العموم. الإشارة: ما سلّى به الرسل - عليهم السلام - تسلى به الأولياء - رضوان الله عليهم - فتكذيب أهل الخصوصية سُنَّة ماضية، غير أن مُكذبي الرسل يُعاجَلون بالعقوبة، ومكذبي الأولياء يعاقبون بالبعد والحجاب. وقال القشيري: { وبئر معطلة } ، الإشارة إلى العيون المفجرة من بواطنهم، { وقصر مشيد } الإشارة إلى تعطيل أسرارهم عن ساكنيها، من الهيبة والأنس وسائر المواجيد. هـ. قلت: وكأنه فسر القرية بالقلب، وهلاكه: خلاؤه من نور التوحيد، فقلوب الغافلين خاوية على عروش عقولهم، المطموس نورها، وعيون بواطنهم معطلة من الفكرة، وأسرارهم خاربة من نور النظرة. والله تعالى أعلم. ثمَّ أمر بالاعتبار عن سلف من القرون المهلكة والآبار المعطلة