الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي ٱلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ ٱلْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } * { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } * { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ } * { وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } * { وَمِنَ ٱلشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذٰلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ }

قلت: { وداود }: عطف على { نوحًا } ، أو معمول لاذكر، و { إذ يحكمان }: ظرف للمضاف المقدر، أي: اذكر خبرهما، و { إذ نفشت }: ظرف للحكم. { ففهمناها }: عطف على { يحكمان } فإنه في حكم الماضي. يقول الحقّ جلّ جلاله: { و } اذكر خبر { داودَ وسليمانَ إِذْ يحكمان } أي: وقت حكمهما { في الحرث } أي: في الزرع، أو في الكرم المتدلي عناقيده، والحرث يطلق عليهما، { إِذ نَفَشَتْ }: دخلت { فيه غنمُ القوم } فأفسدته ليلاً، فالنفش: الرعي بالليل، والهمَلُ بالنهار، وهما الرعي بلا راع. { وكنا لحُكمِهم } أي: لهما وللمتحاكمين إليهما، أو على أنَّ أقل الجمع اثنان، { شاهدين } ، كان ذلك بعلمنا ومرأى منا، لم يغب عنا شيء منه، { ففهمناها } أي: الحكومة، أو الفتوى، { سليمانَ } ، وفيه دليل على أن الصواب كان مع سليمان. وقصتهما على ما قال ابن عباس وغيره: أن رجلين دخلا على داود عليه السلام أحدهما: صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الزرع: إنَّ هذا نفشت غنمه ليلاً، فوقعت في حرثي، فلم تُبق منه شيئًا، فقال له داود: اذهب فإن الغنم لك، ولعله استوت قيمتاهما - أي: قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث - فخرج الرجلان على سليمان، وهو بالباب، وكان ابن إحدى عشرة سنة، فأخبراه بما حكم به أبوه، فدخل عليه، فقال: يا نبي الله لو حكمت بغير هذا لكان أرفق بالفريقين، قال: وما هو؟ قال: يأخذ صاحبُ الغنم الأرضَ ليُصلحها، حتى يعود زرعها كما كان، ويأخذ صاحب الزرع الغنمَ ينتفع بألبانها وصوفها ونسلها، فإذا كمل الزرع، رُدت الغنم إلى صاحبها، والأرض بزرعها إلى ربها، فقال داود: وُفقت يا بُني، وقضى بينهم بذلك. والذي يظهر: أن حكمهما - عليهما السلام - كان باجتهاد، ففيه دليل على أن الأنبياء يجتهدون فيما لم ينزل فيه وحي، فإنَّ قول سليمان عليه السلام: " هذا أرفق " ، وقوله: " أرى أن تدفع... " الخ، صريح في أنه ليس بطريق الوحي، وإلا لبت القول بذلك، ولعله وجه حكم داود عليه السلام قياس ذلك على جناية العبد، فإنَّ العبد فيما جنى. وإذا قلنا: كان بوحي، يكون حكم سليمان ناسخًا لحكم داود عليه السلام. وأما حُكْم إفساد المواشي للزرع في شرعنا: فقال مالك والشافعي: يضمن أربابُ المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار للحديث الوارد في ذلك، على تفصيل في مذهب مالك فيما أفسدت بالنهار. وقال أبو حنيفة: لا يضمن ما أفسدت بالليل ولا بالنهار لقوله - عليه الصلاة والسلام -: " العَجْماءُ جُرْحُها جُبَار " ، ما لم يكن معها سائق أو قائد، فيضمن عنده. قال تعالى: { وكُلاًّ آتينا حُكمًا وعلمًا } أي: كل واحد منهما آتيناه حكمًا، أي: نبوة، وعلمًا: معرفة بمواجب الحكم، لا سليمان وحده.

السابقالتالي
2 3