الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ ٱلْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلاَة وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَـاةِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ }

يقول الحقّ جلّ جلاله: { وجعلناهم } أي: إبراهيم وإسحاق ويعقوب، { أئمةً } يُقتدى بهم في أمور الدين إجابة لدعوته بقوله:وَمِن ذُرِّيَّتِي } [البَقَرَة: 124] أي: فاجعل أئمة، { يَهدُون } الخلق إلى الحق، { بأمرِنَا } لهم بذلك، وإرسالنا إياهم حتى صاروا مكملين، أو يهدون الخلق بإرادتنا ومشيئتنا. { وأوحينا إِليهم فعلَ الخيرات } وهي جميع الأعمال الصالحة، أي: أمرناهم أن يفعلوا جميع الخيرات، ليتم كمالهم بانضمام العمل الصالح إلى العلم، وأصله: أن يفعلوا الخيرات، ثم فعلَ الخيرات، { وإِقامَ الصلاةِ وإِيتاءَ الزكاة } ، وهو من عطف الخاص على العام دلالة على فضله وشرفه، وأصله: وإقامة الصلاة، فحذفت التاء المعوضة من إحدى الألفين لقيام المضاف إليه مقامها. { وكانوا لنا عابدين }: قانتين مُطيعين، لا يخطر ببالهم غير عبادتنا ومشاهدتنا. وأنتم يا معشر العرب والعجم من ذريتهم، فاتبعوهم في ذلك. وبالله التوفيق. الإشارة: إنما يعظم جاه العبد عند الله بثلاثة أمور: انحياشه بقلبه إلى الله، ومسارعته إلى ما فيه رضا الله، وإرشاد العباد إلى الله، بدعائهم إلى الله بالحال والمقال، فبقدر ما يقع من هداية الخلق على يديه يعلو مقامه عند الله، إن حصلت المعرفة بالله، وبهذا تعرف شرف مرتبة مشيخة الصوفية، الدالين على الله، الداعين إلى حضرة الله، إن تكلموا وقع كلامهم في قلوب الخلق، فيرجعون إلى الله من ساعتهم، مجالسهم كلها وعظ وتذكير، حالهم يُنهض إلى الله، ومقالهم يدل على الله، ففي ساعة واحدة يتوب على يديهم من الخلق ما لا يتوب على يد العالم في سنين وذلك لإنهاض الحال والمقال، فلا جَرَمَ أنهم أعز الخلق إلى الله، وأعظمهم قدرًا عند الله. قال السهروردي في العوارف: ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " والذي نفس محمد بيده لئن شئتم لأقسمن لكم، إن أحب عباد الله إلى الله يُحَبِّبُونَ الله إلى عباده، ويُحبِّبُون عباد الله إلى الله، ويمشون في الأرض بالنصيحة " وهذا الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رتبة المشيخة والدعوة فإن الشيخ يُحبب الله إلى عباده حقيقة، ويحبب عباد الله إلى الله. فأما كونه يُحبب عباد الله إلى الله لأن الشيخ يسلك بالمريد طريق الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأخلاقه. ومن صح اقتداؤه واتباعه أحبه الله، قال تعالى:قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [آل عِمرَان: 31]، ووجه كونه يُحبب الله إلى عباده لأنه يسلك بالمريد طريق التزكية، وإذا تزكت النفس انجلت مرآة القلب، ودخل فيها نور العظمة الإلهية، ولاح فيها جمال التوحيد، وذلك ميراث التزكية، قال الله تعالى:قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [الشّمس: 9]، وفلاحها: الظفر بمعرفة الله، فإذا عرفه، قطعًا، أحبه وفنى فيه.

السابقالتالي
2