الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوۤاْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } * { قُلْنَا يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } * { وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ ٱلأَخْسَرِينَ }

يقول الحقّ جلّ جلاله: { قالوا حرِّقوه } أي: قال بعضهم لبعض، لَمَّا عجزوا عن المحاججة، وضاقت عليهم الحيل، وعييت بهم العلل، وهذا دَيْدنُ المبطل المحجوج، إذا قُرعَت شبهه بالحجة القاطعة وافتضح، لم يبق له حينئذ إلا المناصبة والمعاداة، فناصبوا إبراهيم عليه السلام، وقالوا حرِّقوه بالنار لأنه أشد العقوبات، { وانصُروا آلهتكم } بالانتقام لها { إن كنتم فاعلين } للنصر، أي: إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرًا مؤزرًا، فاختاروا له أهول المعاقبات، وهو الإحراق، وإلاَّ فقد فرطتم في نصرتها، والذي أشار بالإحراق نمرود، أو رجل من أكراد فارس، اسمه " هيزن " ، وقيل: " هدير " ، خسفت به الأرض، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة. رُوِيَ أنهم، لما أجمعوا على حرقه عليه السلام، بنوا له حظيرة بكُوثَى - قرية من قرى الأنباط بالعراق - فجمعوا صلاب الحطب من أصناف الخشب، مدة أربعين يومًا، وقيل: شهرًا، حتى إن المرأة تنذر: لَئِنْ أصابت حاجتها لتَحِطَبنَّ في نار إبراهيم. ثم أوقدوا نارًا عظيمة، لا يكاد يحومُ حولها أحد، حتى إن كانت الطير لتمرُ بها، وهي في أقصى الجو فتحترق من شدة وهجها، ولم يقدر أحد أن يقربها، فلم يعلموا كيف يُلقونه عليه السلام فيها، فأتى إبليس وعلمهم علمَ المنجنيق، فعملوه. وقيل: صنعه لهم رجل من الأكراد، فخسف الله تعالى به في الأرض مثل الآخر، ثم عمدوا إلى إبراهيم عليه السلام، فوضعوه فيه مغلولاً مقيدًا مجردًا، فصاحت السماءُ والأرضُ ومن فيها من الملائكة: يا ربنا، إبراهيم، ليس في الأرض أحد يعبدك غيرُه، يُحرق فيك، فَأذَنْ لنا في نصرته، فقال لهم: إن استغاث بواحد منكم فأغيثوه، فرموا به فيها من مكان شاسع، فقال له جبريل عليه السلام، وهو في الهواء: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا. قال: فسل ربك. فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فرفع همته عن الخلق، واكتفى بالواحد الحق، فجعل الله الخطيرةَ روضة. وهذا معنى قوله: { قلنا يا نار كوني بردًا وسلامًا على إِبراهيم } أي: كوني ذات برد وسلام، أي: ابردي بردًا غير ضار. قال ابن عباس: لو لم يقل { وسلامًا } لمات إبراهيم من بردها، ولم تبق يومئذ نار إلا طفئت، ظنت أن الخطاب توجه لها، فما انتفع أحد من أهل الأرض يومئذ بنار، ولم تبق دابة إلا أتت تطفئ عنه النار، إلا الوزغ. فلذلك أمر نبيُنا صلى الله عليه وسلم. بقتلها، وسماها فويسقا. قال السدي: فأخذت الملائكة بضَبْعَي إبراهيم وأقعدوه على الأرض، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس. قال كعب: ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه. ورُوي أنه عليه السلام مكث فيها سبعة أيام، وقيل: أربعين، وقيل: خمسين، والأول أقرب.

السابقالتالي
2 3