الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ مِنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ } * { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ } * { بَلْ مَتَّعْنَا هَـٰؤُلاۤءِ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ طَالَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ }

يقول الحقّ جلّ جلاله: { قلْ } لهم يا محمد: { مَن يكلؤكُم }: يحفظكم { بالليل والنهار من } بأس { الرحمنِ } الذي تستحقونه، إذا نزل بكم ليلاً أو نهارًا. قال الواسطي: من يحفظكم بالليل والنهار من الرحمن أن يظهر عليكم ما سبق فيكم؟ وقال ابن عطاء: من يكلؤكم من أمر الرحمن سوى الرحمن، وهل يقدر أحد على الكلاءة سواه؟ وتقديم الليل لأن الدواهي فيه أكثر وقوعًا وأشد وقعًا. وفي التعرض لعنوان الرحمانية إيذان بأن كلاءتهم ليس إلا برحمته العامة. { بل هم عن ذِكْرِ ربهم معرضون } أي: بل هم معرضون عن ذكره، ولا يُخطِرونه ببالهم، فضلاً أن يخافوا بأسه، حتى إذا رزقوا الكلاءة عرفوا مَن الكالئ، وصلحوا للسؤال عنه. والمعنى: أنه أمر رسوله - عليه الصلاة والسلام - بسؤالهم عن الكالئ، ثم أضرب عنه، وبيَّن أنهم لا يصلحون لذلك، لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم. هكذا للزمخشري ومن تبعه. وقال ابن جزي: والمعنى: أنه تهديد وإقامة حجة عليهم لأنهم لو أجابوا عن هذا السؤال لاعترفوا بأنه ليس لهم مانع ولا حافظ غيره تعالى - يعني لِمَا جربوه في أحوال محنتهم - ثم قال: وجاء قوله: { بل هم عن ذكر ربهم معرضون } ، بمعنى أنهم، إذا سُئلوا ذلك السؤال، لم يجيبوا عنه، لأنهم تقوم عليهم الحجة إن أجابوا، ولكنهم يعرضون عن ذكر الله. هـ. أي: يعرضون عن أن يقولوا: كالأنا الله عتوًا وعنادًا. وهو معنى قوله: { بل هم عن ذكر ربهم مُعرِضون } ، كأنه قال: لو سُئلوا، لم يجدوا جوابًا، إلا أن يقولوا: هو الله، لكنهم يعرضون عن ذكره مكابرة. قلت: وما قاله ابن جزي أحسن مما قاله الزمخشري ومن تبعه، وأقرب. ثم قال تعالى: { أم لهم آلهةٌ تمنعُهم من دوننا } ، هذا انتقال من بيان جهلهم بحفظه تعالى، أو إعراضهم عن ذكره، إلى توبيخهم باعتمادهم على آلهتهم. والمعنى: ألهم آلهة تمنعهم من العذاب تجاوز منعنا وحفظنا، فهم يعولون عليها واثقون بحفظها؟ وفي توجيه الإنكار والنفي إلى وجود الآلهة بما ذكر من المنع، لا إلى نفس الصفة، بأن يقال: أم تمنعهم آلهتهم... الخ. من الدلالة على سقوطها عن مرتبة الوجود، فضلاً عن رتبة المنع، ما لا يخفى. ثم قال تعالى: { لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منّا يُصْحَبُون } أي: يُجَارون. والصاحب: المُجِير الوافي، يعني: أن الأصنام لا تُجير نفسها، ولا نُجيرهم نحن، أو لا يصحبُهم نصر من جهتنا، فهم لا يستطيعون أن ينصروا أنفسهم، ولا يُصحبون بالنصر والتأييد من جهتنا، فكيف يتوهم أن ينصروا غيرهم؟ { بل متّعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العُمُرُ } ، إضراب عما توهموه من منع آلهتهم وحفظها لهم، أي: ما هم فيه من الحفظ والكلاءة إنما هو منا، لا من مانع يمنعهم من إهلاكنا، وما كلأناهم وآباءهم الماضين إلا تمتيعًا لهم بالحياة الدنيا وإمهالاً، كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم حتى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وظنوا أنهم دائمون على ذلك، وهو أمل كاذب.

السابقالتالي
2