الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } * { لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } * { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } * { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ }

يقول الحقّ جلّ جلاله: { وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا } ، حكى الله تعالى جناية أخرى لبعض المشركين، جيء بها لبيان بطلانها. والقائل بهذه المقالة حيٌ من خزاعة، وقيل: قريش وجهينة وبنو سلمة وبنو مليح، يقولون: الملائكة بنات الله، وأمهاتهم سروات الجن، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا. والتعرض لعنوان الرحمانية المنبئة عن كون جميع ما سواه مربوباً له تعالى، نعمة أو منعمًا عليه لإبراز كمال شناعة مقالتهم الباطلة، { سبحانه } أي: تنزه تنزيهًا يليق بكمال ذاته، وتقدَّس عن الصاحبة والولد، { بل } هم { عبادٌ } لله تعالى، و " بل " إبطال لما قالوا، أي: ليست الملائكة كما قالوا، { بل عبادٌ مكرمون } مقربون عنده، { لا يسبقونه } أي: لا يتقدمونه { بالقول } ، ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم به. وهذه صفة أخرى لهم، منبهة على كمال طاعتهم وانقيادهم لأمره تعالى، أي: لا يقولون شيئًا حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به. وأصله: لا يسبق قولُهم قولَه، ثم أسند السبق إليهم لمزيد تنزههم عن ذلك، { وهم بأمره يعملون } أي: لا يعملون إلا ما أمرهم به، وهو بيان لتبعيتهم له تعالى في الأفعال، إثر بيان تبعيتهم له في الأقوال، فإن نفي سبقيتهم له تعالى بالقول: عبارة عن تبعيتهم له تعالى فيه، كأنه قيل: هم بأمره يقولون وبأمره يعملون، لا بغير أمره أصلاً. { يعلمُ ما بين أيديهم وما خلْفَهم } أي: ما عملوا وما هم عاملون، وقيل: ما كان قبل خلقهم وما يكون بعد خلقهم. وهو تقرير لتحقق عبوديتهم لأنهم إذا كانوا مقهورين تحت علمه تعالى وإحاطته انتفت عنهم أوصاف الربوبية المكتَسبَة من مجانسة البنوة، { ولا يشفعون إِلا لمن ارتضى } أن يشفع له، مهابة منه تعالى. قال ابن عباس: " هم أهل لا إله إلا الله " ، { وهم من خشيته } عزّ وجلّ { مشفقون }: خائفون مرتعدون. قال بعضهم: أصل الخشية: الخوف مع التعظيم، ولذلك خص بها العلماء، وأصل الإشفاق: الخوف مع الاعتناء، فعند تعديته بمن: يكون معنى الخوف فيه أظهر، وعند تعديته بعلى: ينعكس الأمر فيكون معنى الإشفاق فيه أظهر. { ومن يَقُلْ منهم } أي: من الملائكة إذ الكلام فيهم، { إِني إِلهٌ من دونه } أي: متجاوزًا إياه تعالى، { فذلك } الذي فرض أنه قال ذلك فرض المحال، { نَجْزِيه جهنم } كسائر المجرمين، ولا ينفي هذا عنهم ما ذكر قبلُ من صفاتهم السنية وأفعالهم المرضية لأنه فرض تقدير، وفيه من الدلالة على قوة ملكوته تعالى، وعزة جبروته، واستحالة كون الملائكة بحيث يتوهم في حقهم ما توهمه أولئك الكفرة، ما لا يخفى، { كذلك نجزي الظالمين } أي: مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الظالمين، الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها، ويتعدون أطوارهم.

السابقالتالي
2