الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يٰمُوسَىٰ } * { قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } * { قَالَ فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلأُولَىٰ } * { قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } * { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ } * { كُلُواْ وَٱرْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ } * { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ }

قلت: { خَلْقَه }: يحتمل أن يكون اسمًا بمعنى المخلوق، فيكون مفعولاً أولاً، و { كل شيء }: مفعولاً ثانيًا، أو يكون مصدرًا بمعنى الخلقة، فيكون مفعولاً ثانيًا، أي: أعطى كل شيء خِلقتَه وصُورته التي هو عليها. يقول الحقّ جلّ جلاله: { قال } فرعونُ في جواب موسى، لما أتاه مع أخيه وبلغا الرسالة، وقالا له ما أمرهما به ربهما، وإنما حذفه للإيجاز، وللإشعار بأنهما لما أُمرا بذلك سارعا إلى الامتثال من غير تلعثم، أو بأن ذلك من الظهور بحيث لا حاجة إلى التصريح به، فقال لهما فرعون: { فمن ربكما يا موسى }؟ لم يضف الرب إلى نفسه لغاية عتوه وطغيانه، بل أضافه إليهما، وفي الشعراء:وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشُّعَرَاء: 23]، والجمع بينهما تَعدد الدعوة، ففي كل مرة حكى لنا ما قال. وتخصيص النداء بموسى، مع توجيه الخطاب إليهما لأنه الأصل في الرسالة، وهارون وزيره. { قال } موسى عليه السلام مجيبًا له: { ربُنا الذي أعطى كُلَّ شيءٍ خلقه } أي: ربنا هو الذي أعطى كل شيء خلقه، أي: مخلوقاته مما يحتاجون إليه ويرتفقون به في قوام أبدانهم ومعايشهم، أو أعطى كل شيء خِلْقته وصُورته التي يختص بها، ولم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان. ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرًا. أو أعطى كل شيء فعله وتصرفه، فاليد للبطش، والرجل للمشي، واللسان للنطق، والعين للنظر، والأذن للسمع، أو أعطى كل شيء شكله من جنسه، للإنسان زوجةً، وللبعير ناقةً، وللفرس رَمْكةً، وللحمار أتَانًا. { ثم هَدى } إلى طريق الانتفاع والارتقاء، بما أعطاه وعرفه كيف يتوصل إلى بقائه وكماله، فألهمه الرضاع والأكل والشرب والجماع، وطلب الرعي وتوفي المهالك، وكيف يأتي الذكرُ الأنثى. ولمّا كان الخلق - الذي هو عبارة عن تركيب الأجزاء وتسوية الأجسام - مقدمًا على الهداية، التي هي عبارة عن إيداع القوى المحركة والمدركة في تلك الأجسام، عطف بثم المفيدة للتراخي. ولقد ساق عليه السلام جوابه على نمط رائق، وأسلوب لائق حيث بيَّن أنه تعالى عالم قادر بالذات، خالق لجميع الكائنات، منعم عليهم بجميع النعم السابغات، هادٍ لهم إلى طرق المرْتَفقات. { قال } فرعون: { فما بالُ القرونِ الأُولى } أي: ما حالها بعد الموت، وما فعل الله بها؟ فقال له موسى: هذا غيب لا يعلمه إلاّ الله، وهو معنى قوله: { علمها عند ربي } ، أو ما حال القرون الماضية والأمم الخالية، وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة؟ فأجابه عليه السلام بأن العلم بأحوالهم مفصلةً مما لا ملامسة له بمنصب الرسالة، وإنما علمها عند الله عزّ وجلّ. وكأنَّ عدو الله، لما خاف أن يُبهت، ويُفتضح، ويظهر للناس حجة موسى عليه السلام، أراد أن يصرفه عليه السلام إلى ما لا يعني، من ذكر الحكايات التي لا مسيس لها بمنصب الرسالة فلذلك أعرض عنه، و { قال علمها عند ربي } ، وهذا أحسن من الأول لأنه لو كان سؤاله عن أحوالها بعد الموت لأمكن أن يقول له: من اتبع الهدى منهم فقد سلم وتنعم، ومن تولى فقد عُذب وتألّم، حسبما نطق به قوله تعالى: { والسلام على مَن اتبع الهدى }.

السابقالتالي
2 3 4