الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }

قلت: هذه الأوصاف تتضمن ثلاثة أعمال، الأول: عمل قلبي وهو الإيمان، والثاني: عمل بدني، وهو الصلاة، والثالث: عمل مالي، وهو الإنفاق في سبيل الله، وهذه الأعمال هي أساس التقوى التي تدور عليها. أما العمل القلبي: فهو الإيمان أولاً، والمعرفة ثانياً، فما دام العبد محجوباً بشهود نفسه، محصوراً في الأكوان وفي هيكل ذاته فهو مؤمن بالغيب، يؤمن بوجود الحق تعالى، وبما أخبر به من أمور الغيب، يستدل بوجود أثره عليه، فإذا فني عن نفسه وتلطفت دائرة حسه، وخرجت فكرته عن دائرة الأكوان، أفضى إلى الشهود والعيان، فصار الغيب عنده شهادة، والملك ملكوتاً، والمستقبل حالاً، والآتي واقعاً، وقد قلت ذلك:
فَلا تَرْضى بغَيْرِ الله حِبّاً وكُنْ أبداً بعِشْقٍ واشْتِيَاقِ تَرَى الأمْرَ الْمُغَيَّبَ ذا عيَانٍ تَحْظَى بالوصُولِ وبالتَّلاَقِي   
وفي الحكم: " لو أشرق نور اليقين في قلبك لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها، ولرأيت بهجة الدنيا وكسوة الفناء ظاهرة عليها " وقال في التنوير: ولو انْهَتَكَ حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان، ولأشرق نور الإيقان فغطّى وجود الأكوان. هـ. وإنما اقتصر الحق تعالى على الإيمان بالغيب لأنه هو المكلف به إذ هو الذي يطيقه جلّ العباد، بخلاف المعرفة الخاصة فلا يطيقها إلا الخصوص، والله تعالى أعلم. وأما العمل البدني: فهو إقامة الصلاة، والمراد بإقامتها إتقان شروطها وأركانها وخشوعها، وحفظ السر فيها، قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: كل موضع ذكر فيه المصلّون في معرض المدح فإنما جاء لمن أقام الصلاة، إما بلفظ الإقامة، وإما بمعنى يرجع إليها، قال تعالى { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقيمُونَ الصَّلاَةَ } ، وقال تعالى:أَقِمِ الصَّلاَةَ } [الإسرَاء: 78]،وَالْمُقِيمِى الصَّلاَةِ } [الحَجّ: 35]، ولما ذكر المصلّين بالغفلة قال:فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ } [الماعون: 4، 5] ولم يقل: فويل للمقيمين الصلاة. وأما العمل المالي فهو الإنفاق في سبيل الله واجباً أو مندوباً، وهو من أفضل القربات، يقول الله - تبارك وتعالى: " يا ابنَ آدم أنفِقْ، أنفقْ عليك " ، وفي حديث آخر: " أنفِقْ ولا تخَفْ مِنْ ذي العرشِ إقْلالاً " وقال صلى الله عليه وسلم: " إنّ فِي الجنَةِ غُرفاً يُرى ظَاهِرُهَا مِنْ باطنها وباطِنَها مِنْ ظَاهِرهَا " ، قيل: لِمَنْ هِي يا رسولَ الله؟ قال: " لِمَنْ أطْعَمَ الطعَامَ، وأفْشَى، السلام، وصَلى باللَّيْلِ والناسُ نِيام " وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: " إن الله - عزّ وجلّ - ليُدْخلُ باللقمةِ مِن الخبز والقبضةِ مِن التمْر ومثله ممَّا ينتفع به المسكين ثلاثةً، الجنةَ: رَب البيتِ الآمرَ به، والزوجة تصلحه، والخادمَ الذي يناولهُ المسْكِين " وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: " إنّ الصدقةَ لتسُدُّ سَبعينَ باباً من السّوء "

السابقالتالي
2